الباحث حمود الغيلاني لشرفات:
صور مدينة نموذجية للحديث عن التاريخ البحري وصناعة السفن
لم أوثق معلومة فـي كتابي إلا ولها ذكر فـي مرجع والتقطت الكثير من شفاه عشاق البحر
التاريخ الملاحي وصناعة السفن فـي مدنية صور .. كتاب صدر حديثا للباحث حمود بن حمد الغيلاني، يتناول سيرة البحر المنقوشة فـي أشرعة الصواري وألواح الساج، ويلخص حكاية العشق القديمة بين البحار العماني والسفينة، وهو عشق متوارث يمتد جذوره إلى الزمن (الماجاني) القديم، وفـي هذا الكاتب الذي يقع فـي 532 صفحة من الحجم المتوسط يتضمن كل ما له علاقة بالتاريخ الملاحي فـي مدينة صور العمانية العريقة، حيث اختارها الباحث مدينة نموذجية لبحثه ومادته، نظرا لعلاقتها القديمة بالبحر، وشهرتها فـي صناعة السفن بمختلف أنواعها، ولأنها مرسى قديم للأشرعة العمانية وغيرها، وموطنا لمِئات الربابنة والنواخذة الذين يتوارثون المهن المِلاحية المتعددة، فمدينة صور ذاكرة البحر فـي الشرق العماني، ومرسى للأشرعة ومرفأ للصواري، وهي تاريخ موغل فـي القِدَم، لذلك فإن كتاب الباحث حمود الغيلاني يأتي ليوثق هذه الحضارة بكل تفاصيلها، حيث اقتنص كل شاردة وواردة ــ جهد طاقته ــ حول ما له علاقة بتاريخ السفائن المُبحرة فـي الصَّفحات الزرقاء على امتداد الحقب الزمنية والعصور البعيدة، ويشتمل الكتاب على عدد من الصور القديمة والخرائط والرسوم التوضيحية ووثائق تنشر لأول مرة.
شرفات التقى الباحث فأجرى معه هذه المحاورة التي تناولت تجربته فـي جمع وتأليف مادة الكتاب، ناثرا اشتغاله البحثي منذ أن كان مجرد فكرة صغيرة للحديث عن أنواع السفن فـي مدينة صور حتى تطور بعد ذلك إلى بحث مهم يتناول التاريخ الملاحي للمدينة بتوثيق دقيق، فمع التفاصيل.
من مجرد فكرة إلى كتاب مرجعي
٭ كيف نبعت فكرة الكتاب، حدثنا عن تجربتك فـي جمع المادة حتى ظهرت بصورتها النهائية هذه؟
ــ بادئ ذي بدء أود أن أؤكد أن فكرة تأليف الكتاب نبعت فـي داخلي بعد أن استمعت إلى الحديث السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـــ حفظه الله ورعاه ــ حيث قال جلالته فـي لقائه بأبنائه طلاب وطالبات جامعة السلطان قابوس: (لن نسمح بمصادرة الفكر)، وكذلك دعوة جلالته للعمل على أن ينهج الباحثون السبيل العلمي فـي البحث وتدوين التاريخ العماني، لقد كان لهذا التفكير السلطاني السامي الدافع الكبير لي للبحث فـي تاريخ ولاية صور التي يراها الكثير من المؤرخين والباحثين والرحالة مدينة متفردة بتراثها وتاريخها البحري، لذا فهي نموذجية أيضا، ولا تزال مادتها بكرا.إن حفظ التراث العماني ورصده من الضياع، هي مهمة كل باحث غيور على مدينته ووطنه، ورأيت من الواجب أن أستقصي ما تناثر من شتات وألم ما تفرق من حكايا وقصص ومعلومات حول هذا التاريخ البحري والذي – وللأسف – أكثره مغيب، أو مخزون فـي بطون الكتب، وصدور النواخذة والبحارة الأحياء، لذلك قمت بتجميع المادة، وقرأت كثيرا حول هذا التاريخ، واستطعت – ولله الحمد – أن أنخل الغث من السمين، ولم أثبت إلا ما هو حقيقي يقبله العقل والمنطق، ولم أوثق اية معلومة إلا ولها مرجع أو مصدر من كتاب أو وثيقة أو التقطها من شفاه عشاق البحر، ورأيت من اللازم أن أستفيد ممن تبقى من النواخيذ والوساتيد (صناع السفن)، ولم يتبق منهم إلا العدد القليل جدا، وكان حلمي فـي بداية مشروعي فـي جمع مادة هذا الكتاب حول صناعة السفن الشراعية، ثم ظهرت مجموعة من الأسئلة تبلورت فـي ذهني وأنا أجمع المادة، منها: لمن تصنع هذه السفن، ولم؟.. وأين؟. ومن الذي صنعها؟.. وتشعب موضوع الكتاب ليخرج بصورته الحالية كما سيتابعها القارئ بين دفتيه، فكان حديث عن المدينة كموقع وكتاريخ.
أما عن فكرة الكتاب الأولى فقد كانت حول توثيق صناعة السفن فـي مدينة صور بكافة مراحلها, فهذه المدينة نالت شهرة واسعة ومتميزة فـي صناعة السفن, حتى إنها أصبحت ورشة أساسية فـي صناعة السفن، ليس على مستوى السلطنة فحسب بل شملت دول الخليج العربي وبعض الدول الإفريقية، وما دليلي على ذلك إلا انتشار نوع سفينة «الغنجة والسنبوك» اللتين تميزت بصناعتهما فـي هذه الدول. وقبل ذلك كانت السفن من نوع «البغلة». وبعد انتهائي من جمع كافة المعلومات الخاصة بصناعة السفن الشراعية من صناع السفن المتبقين النواخذة أو ملاك السفن، ظهرت تلك الأسئلة التي ذكرته آنفا، والتي بالإجابة عليها استطعت أن أكون مادة الكتاب.
التاريخ البحري تكوين ثقافـي
٭ تناولت فـي بحثك التاريخ الملاحي لمدينة صور، لماذا هذه المدنية تحديدا؟ وماذا عن بقية المدن العمانية الأخرى؟
ــ لقد تسنى لي الحديث عن التاريخ الملاحي لمدينة صور تحديدا كوني أحد أبنائها، فأنا أجدر بالبحث عنها لأني بها أعرف، والتاريخ البحري لهذه المدينة جزء من تكويني الثقافـي، بل هو داخل فـي نسيجي الاجتماعي والعادات والتقاليد، إنني أعرف كل النواخذة والبحارة الأحياء، وأدركتهم وعايشتهم، وأعرف تحديدا جوانب كثيرة من القصص الإنسانية التي حدثت لعشاق البحر، وبعضها مدونة فـي وثائق قديمة، وبعضها محفوظة فـي الصدور، وكوني أحد أبناء هذه المدنية تسنى لي أكثر من غير أن أدون وأوثق هذا التاريخ، وهو عمل شطر من عمري عقدا من السنين، وخرجت بنتيجة أن الكثير من مدن العمانية البحرية لها ذاكرة قديمة، ومدينة صور كغيرها من مدن عمان التاريخية مثل «مسقط وصحار» والبليد لها ذاكرة، وهي بحاجة إلى من يبحث ويدرس ويتلمس جوانب الابداع والروح فـي تاريخ هذه المدن, ويسعدني أن يصدر الكتاب متزامنا مع أجمل مناسبة ثقافية وهي حفاوة الوسط بمسقط عاصمة للثقافة العربية لهذا العام.
٭ كم عدد النواخذة الذين استطعت حصر بيانات ومعلومات عنهم وكذلك الوساتيد على حد تعبيرك فـي الكتاب؟
ــ بالنسبة لحديث الأرقام فـي الكتاب, فاسمح لي أن أوضح الآتي: يبلغ عدد النواخذة نحو (444) نوخذا، وأنا واثق أن هناك الكثير من الأسماء التي لم استطع الوصول إليها أو التعرف عليها، أما عدد الوساتيد فيصِل نحو (25) وستاد مول و(48) وستادا، وتسنى لي نشر 385 صورة ضوئية ووثيقة وخريطة ورسومات توضيحية، ويبلغ عدد أسماء السفن الفردية 274 اسما فرديا، وهناك الكثير من السفن تشترك فـي الاسم من نفس النوع أو من أنواع أخرى مثل.. فتح الخير وعطية الرحمن والمتسهل وأمانة الرحمن.. الخ ).
مصطلحات خاصة بصناعة السفن
٭ يتضمن الكتاب ملحقا خاصا بالمصطلحات والمسميات المستخدمة فـي صناعة السفن والملاحة الفلكية، وهي فـي أكثرها مما يتعارف عليه الناس فـي لهجتهم، فكيف تعاملت مع هذه اللغة فـي صياغة الكتاب، هل سيتعرف القارئ على معاني تلك المفردات؟
ــ نعم وقد أفردت لها ملحقا خاصا، وضحت فيه المعاني اللغوية لكل كلمة، وكيفية استخدامها، وما أكثر المفردات التي يتخاطب بها المشتغلون فـي البحر، وهو ما يجهله الآخرون، لذلك خصصت لها ملحقا وضحت فيه تلك المفردات بحصر دقيق وما يقابلها فـي المعنى الفصيح .
٭ ما هي أهم المواضيع التي تناولتها فـي بحثك وتشعر أنها بحاجة إلى المَزيد من إشباع فـي البحث؟
ــ إن كل ما ورد فـي الكتاب عزيز عليّ, فقد أخذ وقتا ليس بالقصير ليظهر بهذه الصورة, وكانت البداية منذ عام 1997م، إلا أن هناك مَواضيع تحتاج فعلا إلى إشباع فـي البحث وتوافر جهود متعددة، وهي تستأهل أن تكون كتبا قائمة بذاتها مثل:
تاريخ المدينة، والنواخذة والوساتيد ‘النجارين، ومراحل صناعة السفن، وإجراء دراسة مقارنة مع سفن الحضارات والأمم الأخرى فيما يخص تطور صناعة السفينة الصورية.
دحض تهمة تجارة الرقيق
٭ فـي هذا الكتاب قمت وبأسلوب منهجي دحض فكرة تجارة الرقيق، وهي تهمة تحدث عنها مؤرخون فـي كتبهم، ماذا عن هذا الجانب المظلم فـي التاريخ الانساني لمدينة صور؟
ــ إن تجارة الرقيق تهمة جاهزة، ارتبطت فـي تلك الحقبة التاريخية بفكرة السيطرة الإستعمارية على عُمان، ومحاولة ضرب أسطولها التجاري وبُعْدها السياسي، وللأسف فإنه مما اثأر استغرابي أن الكثير من المؤرخين العرب تناولوا هذا الموضوع كما ورد فـي الكتابات والوثائق الغربية، لكن بدون دراسة وتمحيص، ولا توخي للدقة والمصداقية، مما ساعد على نشر مقولة: إن عمان كانت مركزا لتجارة الرقيق فـي العالم فـي تلك الفترة، ووجهت تهمة ظالمة لبعض الحكام قديما، ولأهل عمان، وأهل صور بصفة خاصة، إن العملية وان وجدت فهي فردية غير منظمة، فـي حين انه فـي نفس الفترة كانت الكثير من الدول الأوروبية تقوم بإصدار القوانين والاذونات المُلكية للاتجار فـي الرقيق وكانت تباع بنظام المزايدة للشركات المتخصصة فـي هذا العمل.
شكر وتقدير
٭ هل ثمة من وقف بجانبك فـي إنجاز هذا العمل؟
ــ نعم ويسعدني فـي هذه المحاورة أن أقدم التحية لكل من أسدى إلي معلومة، أو فكرة، أو تعاون معي فـي تصوير مشهد أو وثيقة أو كتاب، وفتح علي بفضل الله الكثير من المغاليق التي لم أكن أنجزها لولا تعاونهم معي، فالباحث لا يعمل لوحده، وإلا فسيكون عمله واهنا وضعيفا، إنما عليه أن يستفيد من الجميع، وأن يتأنى فـي جمع مادته، وفـي صدارة هذه الأسماء صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث والثقافة، والشيخ عبدالله بن علي بن محمد العريمي، له كلمة فـي الكتاب، وكلاهما لهما كلمة نشترهما فـي صدارة الكتاب، وكذلك سعادة المكرم د. سعيد بن محمد الغيلاني أستاذ التاريخ الإسلامي فـي جامعة السلطان قابوس، ود. يوسف بن عبدالله الغيلاني رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس، والأستاذ: سالم بن سعيد العريمي، وهؤلاء جميعا لم يبخلوا علي بفكرهم وثقافتهم، وأتمنى أن يحظى الكتاب على رضى القارئ.
التاريخ الملاحي وصناعة السفن فـي مدنية صور..
سيرة البحر المنقوشة فـي أشرعة الصواري وألواح الساج
قسم الباحث حمود الغلاني كتابه (التاريخ الملاحي وصناعة السفن فـي مدنية صور) إلى عشرة فصول رئيسية يتفرع منها العديد من العناوين، ففي الفصل الأول تناول الموقع الجغرافـي لمدينة صور، طائفا على جانب من تاريخها، ومُتحدثا حول المكتشفات الأثرية التي عثرت عليها حملات التنقيب الأوروبية الموفدة من كبرى جامعات العالم، كما تحدث عن مدنية صور فـي الكتابات التاريخية، وأثر العلاقات العمانية ـــ الأوروبية على المدينة، وتناول الفصل الثاني: الملاحة الفلكية، متحدثا عن الأدوات والأجهزة الملاحية «كالباطلي، وآلة الكمال، والديرة، والاسطرلاب»، وتطرق إلى ذكر المسالك البحرية التي يحفظ دروبها البحارة والنواخذة، وفـي الفصل الثالث تناول جوانب من بعض المشاكل التي لها علاقة بالتاريخ الملاحي، وفـي الفصلين الرابع والخامس تحدث عن تطور صناعة السفن فـي المدينة، وأنواعها، من مثل: الغنجة والسنبوك والبغلة والجالبوت والبدن وعويسية والبوم والشوعي واللنج السماك والماشوة والهوري، وفـي الفصل السادس تناول تكوين أجزاء السفينة مثل الدكل وأنواع الحبال، وأنواع الأخشاب المستخدمة فـي صناعة السفن، وأنواع المسامير، والمواد العضوية المستخدمة فـي صناعة السفينة، وطاقم صناعة السفينة، وخبراء البحر فـي مدنية صور، كالنواخذة والبحارة، و(الوساتيد) بمعنى أساتذة البحر، وأشهر أسماء السفن الصورية.
وفـي هذا الكتاب استطاع الباحث حمود الغيلاني أن يوظف جانبا من التاريخ الانساني مع البحر، ساردا أحداثا ومواقف عاشها البحارة والنواخذة فـي البحر التقطها الباحث من الذاكرة الشفهية للناس، وفـي الفصل التاسع تناول اتفاقيات الحكومة العمانية مع الحكومة البريطانية والفرنسية خلال أعوام 1822م، و1833م، و1839م، و1844م، وكان الفصل العاشر خاصا بسرد المراجع والمقابلات الشخصية التي استقى منها مادته.
ويتميز هذا الكتاب بما يحتويه من توثيق دقيق لكل ما له علاقة بالتاريخ البحري فـي مدينة صور، مما يفتح المجال لباحثين آخرين فـي كتابة التاريخ الملاحي فـي مدن عمانية أخرى التي تمتد بامتداد الساحل البحري، بدءا من مدن محافظة ظفار، ومرورا على مدن قريات ومسقط، ومدن ساحل الباطنة الخصيب مثل بركاء وصحار وشناص، وانتهاء بخصب حيث محافظة مسندم، إن هذا الساحل بامتداده الطويل غني بمادة خصبة، لكنها بحاجة إلى باحث يتحلى بالصبر والنفس الطويل والقدرة على الاستقصاء، وحسب المقابلة التي أجريناها مع الباحث حمود بن حمد الغيلاني فإن جمع مادة كتابه هذا شطرت من عمره عشر سنوات بتمامها وكمالها، وخلال هذا العقد الزمني كان يبحث، ويجمع، ويقرأ، ويعيد صياغة ما كتب، ويصور، ويلتقط القصص الانسانية التي تحفظها صدور النواخذة والبحارة و(الوساتيد) الأحياء الذي توارثوا المهنة جيلا بعد جيل، إلى جانب ذلك استفاد من مراجع عمانية وعربية وأجنبية مترجمة ومقابلات شفهية، بلغ عددها 121 مرجعا، وأجرى 26 مقابلة شخصية مع فئات مختلفة: من مثل: أستاذ، نوخذة، مقدمي (رئيس البحارة)، والبحار (العامل فـي السفينة)، وجمعهم يقطنون مدينة صور.
الباحث فـي سطور
حمود بن حمد بن محمد الغيلاني، خريج كلية الآداب قسم تاريخ، جامعة بيروت العربية، موظف بوزارة التربية والتعليم بالمديرية العامة للتربية والتعليم لمنطقة جنوب الشرقية، اهتماماته الشخصية البحث التاريخي والموروث الشعبي ثقافة وأدبا.
المصدر :
جريدة عمان ..ملحق شرفات