مادة الكتاب هو المكان الذي تمثله “ولاية صور”، الحورية المطلة على البحر، بتاريخها البعيد والعميق، الضارب بجذوره إلى سبعة آلاف سنة، ويأتي الإنسان بإبداعه ومواهبه، وألق حضوره، وتأثيره في المدينة حاضرا بقوة، ولم يبخل الباحث أن يقدم للقارئ نماذج من إسهامات كل من ورد ذكره في ثنايا الكتاب الذي صدر قبل أيام، وطبع في مسقط.
“ولاية صور”، عنوان كبير لكتاب يزيد عدد صفحاته عن أربعمائة صفحة، مرفق به صور فوتوغرافية للأمكنة الوارد ذكرها، والشخصيات التي تحدث عنها، ومن القراءة الأولى له يأخذنا الكتاب إلى الحياة الثقافية لمدينة صور، ويعرفنا على أهم الأمكنة التاريخية والسياحية والطبيعية، إلى جانب الشخصيات الأدبية كالقضاة والشعراء والشاعرات، والمعلمين والمعلمات، والفنانين والمطربين والأطباء التقليديين، وكل من أسهم في أي حراك ثقافي أو فكري أو قدم دورا تنويريا في الولاية، ما يشبه الحصر والتوثيق ويستعين الكاتب على ذلك بمعارفه من أهل الولاية، وبالمقابلات الشخصية مع من يعدون مراجع شفهية عاصرت وعايشت بعض الشخصيات الراحلة.
فصول الكتاب
يبدأ الكتاب بمقدمة تعريفية عن ولاية صور، تشمل الموقع الجغرافي والدور التاريخي الذي لعبته خلال مرحلة زمنية طويلة، فهي الولاية التي تقع في أقصى الشرق من الخريطة العمانية، وتعتبر حاضرة المنطقة الشرقية، وتظهر سلسلة جبال الحجر كخلفية من جهة الغرب والجنوب، هناك حيث نيابة رأس الحد، وهناك حيث تنتهي هذه الجبال الشاهقة التي تقطع السلطنة بدءا من محافظة مسندم، مرورا بمنطقة الباطنة، ثم الداخلية، وانتهاء بالشرقية. أما عن تاريخ الولاية فيسرد الباحث ما تناوله المؤرخون والرحالة الذين زاروا مدينة صور خلال الأزمنة الماضية، منهم الأدريسي الذي ذكرها في كتابه الشهير: “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، حيث ذكر أن صور وقلهات مدينتان صغيرتان ولكنهما عامرتان، وتحدث عن ممارسة سكان المدينتين لحرف صيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ من عمق البحر، والمغاصات العميقة التي يمكن منها استخراج اللؤلؤ.
ويسرد الباحث زيارة عبدالرزاق بن أسحق لمدينة صور عام 1441م، وكذلك زيارة ابن بطوطة لضريح “بي بي مريم” الشهير، ومحطته في مدينة قلهات، حيث ذكرها في كتابه “نزهة الأبصار”، أو المعروف برحلة ابن بطوطة، حيث ذكر، وبها مسجد بني من “القاشاني الأحمر”، وخلال الأشهر الماضية تم الكشف عن معالم ذلك الجامع الذي ذكره ابن بطوطه، وهناك من يرى أن الوصف ينطبق على الضريح المعروف.
من جانب آخر تحدث الباحث عن المعالم الأثرية في الولاية، من القلاع والحصون والأبراج التي كانت تستخدم للحراسة، مثل حصن بلاد صور، وحصن سنيسلة، وقلعة العيجة، وحصن رأس الحد، وحصن سكيكرة، وبرجة الرفسة، وبرج عقبة البلاد، وغيرها من المعالم.
الملاحة الفلكية
في الفصل الذي حمل عنوان “النشاط الاقتصادي”، لا يتصور القارئ أن الباحث سيقدم تقريرا عن الموانئ البحرية الحديثة، إنما يحفر في الذاكرة بالحديث عن “الملاحة الفلكية”، وهي ـ كما يرى الباحث ـ “فن وعلم”. يتحدث الكاتب عن دور النواخذة وهم يقودون السفن الكبيرة في عرض البحر، وكيف أن الملاح يستطيع بحسبة فلكية ذات علاقة بمطالع النجوم أن يحدد مسار الرحلة، وفي أي بقعة هي السفينة الآن.
في هذا الفصل نتعرف على أنواع من “السفن الصورية”، من بينها البغلة، والسنبوك، والغنجة، والبوم، والبدن، والجاليوت، والعويسية، إضافة إلى سفن أخرى مثل اللنج، والماشوة والهوري، مما يعرض الكتاب صورها الفوتوغرافية.
وفي النشاط الزراعي، لم يفت الباحث أن يضيف هذا المجال إلى كتابه، مع صور نادرة لـ”بلاد صور”، التي هي الثغر الأخضر الباسم لمدينة صور، الصورة تعود إلى عام 1908م، وهي صورة نادرة تكشف عن كثبان النخيل وبعض المعالم الأثرية.
ومن الزارعة إلى حرفة النسيج، ثم إلى حرفة صيد الأسماك، وصناعة الصاروج “الأسمنت المحلي” الذي شيد به الأوائل القلاع والحصون، ثم صناعة المعادن الثمينة كالذهب والفضة، مع ذكر أنواع تلك الحلي التي تتزيا بها المرأة في صور، وحديث طويل عن الخنجر، والأجزاء التي يتالف منها.
ثم حديث عن محمية السلاحف في رأس الحد ورأس الجنز، ثم حديث عن كهف الجن والشواطئ الساحلية، والأخوار الطبيعية، و”البحائص”، وهي من مصادر مياه الشرب والطبخ، حيث تحفر في الأرض الرملية، ويتم إبعاد التربة الطينية عن فوهة الحفرة مسافة تصل إلى متر، ثم حين تمتلئ بالماء يستسقي منها الناس، وتحفر هذه البحائص في الأودية، كوادي الجزير ووادي العفيفة.
فن العمارة
ينتقل الباحث بعد ذلك إلى تقديم رؤية هندسية حول “البيت الصوري”، وهو بيت متفرد في تشكيلاته، يقول الباحث: يتألف البيت الصوري من طابقين، وبه فناء واسع وغرف متعددة، وفي هذا الوصف يوظف الباحث الصورة الفوتوغرافية لنماذج من البيوت الأثرية في صور، موضحا المداخل والنوافذ والأقواس، ويبدو أن لدى الباحث أرشيفا زاخرا بالصور النادرة، بعض تلك الصور تعود إلى عام 1908م، حيث نطالع صورة لمدينة “صور الساحل”، وهو القسم البحري من مدينة صور، ومن هذه الصورة نرى تواضع البيوت، وبناءها بالنمط التقليدي، ونرى في الحين نفسه تقاربها وتجانسها، فأهالي صور الساحل متقاربون رحيما ومهنيا، إذ أغلبهم ينتمي إلى قبيلة واحدة أو قبيلتين، أو عدد من القبائل المتآلفة، ويعملون أكثرهم في حرفة الصيد، ومنها خرج كبار النواخذة والفنانين والمهنيين.
ولا يترك الباحث حمود الغيلاني شاردة أو واردة لها علاقة بصور إلا ووظفها في كتابه الثمين الذي يعد قاموسا زاخرا بالفصول والحياة، والشخصيات، وإبداعات الإنسان، وفي فصل من فصوله المتتالية يقدم تفصيلا عن الملابس الصورية”، وهي ملابس لها شكلها المميز، للرجال والنساء، الثوب بشكله الأنيق والفضفاض، المطرز بالزري وخيوط الفضة، ما يكشف عن أناقة وسحر وجمال المرأة في صور، ثوب يشي بالترف والبحبوحة، ويستر كل تفاصيل الجسد، لكنه بالمقابل ينم عن أناقة المرأة وذوقها، وفي الكتاب تفصيل عن الحياة المعيشية كما يسميها الباحث، والفنون الشعبية والعادات والتقاليد، والقبائل ومناطق سكناها بالولاية، والمجال الإداري.
الحياة الثقافية
الجانب الثقافي بشخصياته ونماذجه يغطي مساحة كبيرة من الكتاب، حيث نتعرف على شعراء المدينة في مختلف الفنون الأدبية، كالشعر الفصيح، والشعبي وفنون الميدان، مع تقديم سيرة سردية عن كل شخصية يتناولها، وتقديم نماذج من أدبياتها المأثورة عنه شفهيا، أو المخطوطة أو المطبوعة، شخصيات كثيرة تاريخية ومعاصرة، بدأ من ولاة الإمام ناصر بن مرشد مؤسس الدولة اليعربية وانتهاء بآخر المطربين، سيرة مفصلة عن أسماء قدمت إبداعات أدبية وثقافية وفنية، وغنائية، وهي سيرة لم تقتصر على جنس الرجال فحسب، بل شملت كل من لهم علاقة بهذا الجانب من الرجال والنساء، حد أن القارئ يخرج بتصور عن ذلك العدد من الأسماء التي اشتغلت بالجانب الثقافي والفني، والتي خرجت من ولاية صور، بعضهم أصبح من المشاهير.
الحياة الثقافية في هذا الكتاب واسعة ومفصلة جدا، والقصائد التي نشرها الباحث بمثابة “ديوان موجز”، لمبدعي صور، وحين جاء الحديث عن المطربين لم يكتف بتقديم سيرة ذاتية لهم، إنما قدم نماذج من أغانيهم التي يرددها الناس في كل مكان، فالمطرب الصوري أكثر حضورا وشهرة من غيره، نظرا لانتشار التسجيلات وتوزعها.
ومن الكتاب يتعرف القارئ على مجموعة من الأسماء الفقهية، والتي أسهمت في هذا المجال بالعديد من المؤلفات في الفقه والتجويد وعلم الفرائض والتوحيد، وهي مباحث شرعية يعرفها كل من يدرس علوم الشريعة.
يا رب نظرة لمدير المدرسة
أسهم التعليم المبكر لأبناء ولاية صور في تفتحهم على معارف كثيرة، وبرزت “مدرسة دار الفلاح”، كأولى المدارس التي تعلم منها الناس علوم القرآن الكريم وعلم الحساب، بما يتناسب مع تفكير أهالي الولاية، وشغفهم بارتياد البحر، وفي هذا المبحث يقدم الباحث الغيلاني صورا ضوئية لمدرسة دار الفلاحي وهي أول مدرسة نظامية أنشئت بولاية صور، وذلك في عام 1942م، وكانت في بدايتها تتكون من خمس غرف، أربع منها استخدمت فصولا دراسية، والخامسة للإدارة، بالإضافة إلى وجود فناء واسع لممارسة أنشطة تعليمية أخرى، وكانت هذه المدرسة تدرس اللغة العربية والفقه والتوحيد والتجويد والحساب.
ويقدم لنا الباحث الغيلاني تحفة أدبية، وهي “نشيد الصباح”، الذي كان يردده الطلاب المتعلمون في هذه المدرسة، أنشودة رقيقة، فيها دعاء ووفاء، وفيها محبة متناهية، وفيما يلي نصها:
يا ربنا بالفاتحة
هبنا العلوم الناصحة
ومن القلوب الخاشعة
ألطف بنا والمسلمين.
إنا وقفنا طائعين
وفي المواهب طامعين
فهب لنا حس اليقين
إنك مجيب السائلين.
يسر لنا أمورنا
واشرح لنا صدورنا
واستر لنا عيوبنا
فأنت بالستر تعين
وانصر لنا وأيدا
سلطاننا الزاكي الندى
ربي اكفه شر العِدا
وشر كل المؤذيين.
يا رب نظرة للمدير
يرزق بها علم كثير
فافتح علينا يا خبير
يمنح فتوح العارفين.
ثم الصلاة والسلام
على النبي خير الأنام
وآله الغر الكرام
وصحبه والتابعين.
وهناك أنشودة أخرى تقال في نهاية اليوم الدراسي، فكأنما اليوم الدراسي يبدأ بالشعر وينتهي به.
ومدرسة “دار الفلاحي” التي عرفت بعد ذلك باسم مدرسة: “الغزالي”، نسبة إلى مديرها الشيخ عبدالله بن أحمد الغزالي، استمرت في أداء رسالتها التعليمية والتنويرية خلال الفترة من 1942م ـ 1952م.
وإلى جانب الرجل حملت المرأة مشعل التنوير في المدينة، وعملت معلمة “مدرِّسة قرآن كريم”، حيث يقدم لنا الباحث 25 معلمة، منهن: المعلمة فاطمة بنت علي بن محمد الشقاق العريمية التي ولدت عام 1805م، وتوفيت عام 1892م، وهي من أوائل المعلمات في صور، وما يزال مقر مدرستها قائما إلى اليوم، وتخرج على يديها عدد من أبناء عائلتها اللائي أصبحن بعد ذلك معلمات، وكذلك المعلمة آمنة بنت علي العريمية التي ولدت في عام 1824م، وتوفيت عام 1941م، وعلى يد هذه المعلمة الرائدة تخرج كبار رجال الأعمال، أبرزهم الأخوان: سهيل وسعود بهوان، حسب ما ذكر الباحث في سياق كتابه.
ومن المعلمات كذلك: آمنة بنت يوسف العريمية، وبشارة بنت محمد مديهم الفارسية، وثنية بنت عبيد بن سالم الفارسية، وينشر لها الباحث صورة مع طالباتها في المدرسة، مرتدية الزي الصوري للمرأة “القبعة”، وفي يدها عصا خيزران، يستخدمه معلمو ومعلمات القرآن الكريم لردع الطلاب والطالبات عن الفوضى.
ومنهن أيضا: ثنية بنت زايد الغيلانية، وحكيمة بنت محمد بن سليم الغيلانية، وراية بنت سالم العلوية، وراية بنت سالم بن حمد الحتروشية، وربيعة بنت فيروز الفارسية، وسالمة بنت سالم بن محيل النجادية، وسالمة بنت مسلم الغيلانية، وسعادة بنت فريش بن سالم، وسلامة بنت ثوريني بن فرحان، وصالحة بنت خميس مهيندي، وسليمة بنت حمد بن راشد المسكرية، وفاطمة بنت حمد بن علي الشقاق، وغيرهن.
الأطباء والصيادلة
مارس بعض من أهالي صور مهنة الطب التقليدي، وصنعوا أدوية من الأعشاب، وعالجوا بها الكثير من الأمراض المستعصية، وحركة الطب التقليدي واحدة من مشاغل الإنسان في مدينة صور، من أشهر أولئك الأطباء جمعة بن راشد الفارسي، وخميس بن سليم بن عبدالله أل فنة، وغيرهم، كانوا يعالجون مرضاهم بأدوية تقليدية مشهورة آنذاك الوقت، بعضها متوارثة، وبعضها من ابتكاراتهم.
وخلاصة القول إن الباحث حمود الغيلاني، قدم لأهالي صور تحفة تضم تاريخهم الثقافي والاجتماعي والإنساني، مثلما قدم للقارئ العماني والعربي، هذه الخلاصة التي تشكلت في كتاب واحد، وضمها مؤلفه، البسيط في عبارته، والعميق في فكرته، والثري بمادته