لمّا سُئِلتْ عنه، أجابتهم: تأبّطَ قلمًا ونزل ينوي أن يضع فوق كلِّ حكاية حرفًا، ملأ ذاكرته التراثية نثرًا وشعرًا وجمع من كل الفنون الجميلة التي تركتها هذه الأرض الطيبة أثرًا بعد أثر وحكايةً شرقيةً بعد حكاية، ظهر واختفى ثم وقف واستوقفْ وبكى أمامها يسألها أجابتهُ بما يسرُّه، وأجابها بما يُشتهى، فها أنت أيها السائر إلى طريق الخلود تضع رجلاً في السماء ورجلاً في ذاكرة البحر أيها البّحّار الشرقي يا جامع الدرّ والعقيق والمرجان الأحمر قد دوّنت جداريتك فوق أديم السماء.
* * *
أبصرت عيناك الصغيرتان قريتك الفينيقية “صور” قبل ستين حجةً من الآن ونمت أغصان طفولتك بماء القرآن وعذب التلاوة والترتيل في تلك الكتاتيب الصغيرة على ممرات حارتنا القديمة، تنقّلتَ في الخليج شعرًا وشدوًا وطلبًا للعلم تارةً ولتاريخ الربابنة والنواخذة تاراتٍ أُخر وزرعت في كل رابيةٍ نخلة، بعدها صنعت من الأطفال أعمدةً طاولت بهم عناقيد النجوم وحُصيّات القمر، علّمتَ .. ربّيت جيلاً بعد جيل وأظهرت موهبةً وكشفت عن أخرى في محافل الأدب وخيام الشعر بين الفرزدق وجرير والحطيئة الشاعر العجوز، أسست أنديةً ليس كأندية قريش ولا كحلبات روما القديمة وبنيت صرحًا من صروح العلم قبّتهُ الأدب، كنت وما تزال من الآباء المؤسسين لهذا الوطن الجميل، فقد الوطن –في هذا الوقت- وطنًا يجمعك في حكايات وفنون شعبية وقصائد وتراثيات وحرفة وحيدة بل حرفيات، قلت –كما قيل لنا- أنك قلت شلّة مسبّع:
خاطف بدربي وشفت السولعي مــاشي
يوم قلت أيش الطلب ؟ قال: الطلب ماشي
عــدّى بدربــه ومرّ بسيره متـحاشي
* *
السيـــر فوق الأرض والأثر في قلبي !
هيّض فـؤادي وخلى الشـــوق يلعبي
لــولا الحيا والملامة فاتحته بحــبي
أخشى كـــلام الخَلْق واتحذّر الواشي
* * *
وها أنت تقول من فن “بن عبادي”:
بديت بك خالقي يا عالمــــن باليقيـن
اهدي تحية وسلام مسا الخير يا الحاضرين
قال الفتى القادري ازقر بصوتي اللحــين
يا مولدات الهوى استلمن بنوك الخزيــن
تاهت بساتين “مخا” تثمر بخوخ وتيـــن
ميلي غصون الورد واتخضع الياسميــن
* * *
ترى كم من أجيال تعلمت أبجديات المعرفة على يديك، وكم من باحث قد وقف على بابك طالباً الإذن بأن ينهل من بعض معين معرفتك، وكم من إعلامي دفعته رحابة صدرك وغزارة ثقافتك المحلية كي تكون ضيفاً خفيفاً على برامجه التي تعنى بالموروث العماني والتي لا يجيد الحديث فيها سوى أمثالك، وكم من شاعر كان تأبطك ليده وتقديمك له على حساب ظهورك في الأمسيات المتعددة التي كنت تدعى إليها سبباً في بزوغ نجمه.
ترى هل يتذكرك الآن كل هؤلاء؟
وهل تتذكرك حواري صور والأشخرة وسمائل وغيرها من الحواضر العمانية التي تنقلت بينها طوعاً معلماً ومديراً، ملبياً نداء الوطن بالعودة للمساهمة في بناءه ، تاركاً مغريات كثيرة في وقت كانت العودة في نظر البعض أشبه بالجنون.
بل هل ستنساك كل الولايات وأنت الذي لم تترك قرية عمانية دون أن يكون لها نصيب من حضورك لفعالية من فعالياتها المختلفة.
* * *
ماذا سنكتب عنك يا أستاذنا، أعن شاعريتك الجميلة، أم مسيرتك في مجال التربية والتعليم، أم سنتطرق إلى الحديث عن دورك المهم في تأسيس الحركة الكشفية في المحافظة، أم سنلخص دورك المهم في صقل مواهب المسرح المدرسي كونك أحد رواده، أم سنفتح خزائن دررك في مجال الفلكلور الشعبي وكل ما يتعلق به من فنون وعادات ومناسبات، أم عن عشرات المهرجانات الوطنية والتربوية التي لم يكن ليكتمل نجاحها بدون بصمتك.
أعذرنا أيها الرائع فمداركنا قاصرة عن تتبع سيرتك بكافة جوانب إبداعاتها، فهي أوسع من أن تلخص في بضعة سطور.
ترى هل سيأتي من يلملم هذه السيرة يوماً ما في سفر يبقى تذكاراً لأجيال قادمة علهم يقتبسون شيئاً من عطاء أمثالك ، وهل سيفكر أحدهم في إقامة أمسية تتناول جوانب من مسيرتك الحافلة ، وهل سيقترح آخر أن يتصدر اسمك قوائم التكريم في أحد مهرجاناتهم، وهل سنطالع في أحد ملاحقهم الصحفية شذرات من سيرتك.هل سيحدث كل ذلك أو بعضه؟
* * *
ألست أنت الذي أبيت إلا أن تقول “وثيقة عهد” تظل شاهدك الأخير على قبرك الداني من قلوب الناس كأنك ترثي نفسك قبل أن تموت “زهر تضوّع، فاح الطيب تاليه”:
زهر تضوع، فاح الطيب تاليــه ** والطير غـرد لحن الورد يسجيه
ورد تـعطر بالأرجاء نفحتــه ** شـدو البلابل معنى الحب يشجيه
والبحر يحكي من الأمواج ملحمةً ** ذكـــر الربابنة الأفذاذ يطريه
كم أبحرت في شراع المجد مبحرة ** سفائن الخير كل الخيـر تجبيـه
سل البحار عن الآباء وما صنعوا ** قم حدِّث الابن عن موروث أهليه
* * *
ولدت كهلاً يا عبد القادر ورحلت شيخًا حكيمًا يا عبد القادر بن محمد الجيلاني.. لعقت المرَّ حتى تذيقنا العسل الحلو، سقى الله قبرك رحمات وزخات من المطر والخشوع والطمأنينة أيها الرجل الكريم.
بقلم : د.محمد بن حمد العريمي و علي بن حمد الفارسي