لعل هذه المقالة هي آخر مقالات هذا الموسم، والصيف دائما مجالا للتجديد والاسترخاء، أو لعلها آخر مقالات هذا العام فقد قررتُ الاستراحة لمدة عام، والتوقف عن الكتابة لإنجاز عمل آخر، إن الانتظام في كتابة عمود أسبوعي يشكل عبئا ليس بالهين للكاتب، خاصة إذا كان ملتزما بها، لأن المقال يقوم على اقتناص الفكرة التي سينسج عليها الكاتب خيوط النسج المتكامل للمقال، إذن اسمحوا لي قرائي الكرام أن أودعكم وداع اللقاء المتجدد، إن شاء الله وإن طال السفر، فالكتابة لا تحتمل التقاعد بكافة أشكاله، إنها تلتحم في روح الكاتب ولا يستطيع التداوي منها. لكن عزائي أن كتابة اخرى ستنبثق من الهدنة، واسمحوا لي قبل الدخول في صلب المقال أن أتوجه بالشكر لبلدية صُور فقد بدتْ لي الحواري الصورية أكثر نظافة وإشراقا في جولتي الأخيرة.. وأزيلتْ أنقاض بعض البيوت المهجورة… ولابد أن أتوجه لهم بالشكر، لكننا نطمح بالمزيد فهم يستطيعون ونحن نستحق، نعم نريد جهدا مضاعفا.. في إزالة كل ما يعرقل مرور السيارات بين السكك وإزالة الكتل الإسمنتية المعيقة المعروفة بنظام البالوعات القديمة، ومن السهل استبدالها بمربع إسمنتي صغير لا يزحم الطريق ولا يأخذ حيزا منه كما فعلت بعض البيوت القديمة أثناء التجديد، ولا داعي لانتظار نظام الصرف الصحي، كما قال لي احد المسؤولين هناك للإزالة، الله يعطينا ويعطيكم العافية وطول العمر إلى أن يصل الصرف الصحي لصُور، فهو مازال يتسكع في العاصمة بحرية مطلقة، ينام دهرا ويصحو شهرا… والخلاصة شكرا لكم، ولا خير فينا إذا لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها وتنفذون ما تقدرون عليه، فكلنا نهدف للصالح العام وكلنا شركاء في تجميل وجه هذا الوطن.
في الرابع عشر من شهر شعبان من كل عام تحتفل مدينة صُور العمانية باحتفال جميل يسمى الشعبانية، والشعبانية احتفال شعبي مبهج للأطفال والكبار… كانت الأمهات يتنافسن في تطريز ملابس بناتهن ودشاديش أولادهن الصبيان بأجمل انواع التطريز، وكانت الأم الماهرة هي التي يضرب بتطريزها المثل، ولأن ألوان الزي العماني زاهية مبهجة، فأن البهجة تنتشر شرقا وغربا في المدينة، لأن الأطفال ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر ومن الساعة السادسة عند انبثاق الضوء يتسابقون جريا إلى مختلف المنازل كل حسب مقدرته، الجميل أن كل البيوت تفتح أبوابها للصغار ابتهاجا واستعدادا للمناسبة، ويحمل كل طفل كيسا مخيطا من القماش ليجمع فيه النقود التي يتحصل عليها بطيب خاطر من الكبار، وكان الكبار يحرصون على أن يكون النقد الممنوح للطفل جديدا لامعا، ويحرصون على الاحتفاظ بهذه الملابس الغالية المكلفة في ثمنها وجهدها الذي يستمر لشهور ليُلبسها الطفل في عيد الفطر، عند أذان الظهر يتوقف الصغار.. ويستعد الكبار للطبخ لإخراج ما يسمى (الثواب) أي الصدقات للجيران وللأهل من المأكولات، خاصة من كان لديهم أموات لم يكملوا العام، وكثير من الناس يكون صائما فيستعد لعمل الفطور وتوزيع الطعام، إنها عادة مفرحة جدا ولمدة يوم واحد… يدخل الطفل قائلا (أبااااا شعبانيتي) أي أريد حقي من الشعبانية، وتسمى أحيانا حق الله، والشعبانية احتفال موجود في الإمارات وتعرف بحق الليلة، وكما قيل لي من أحد أبناء صحار كانت موجودة في صحار، وربما في مدن عمانية أخرى، لكنها انقرضت كعادة، أو ضعف الاهتمام بها، والغريب أنها تزداد قوة في ولاية صُور، فلم تكتف المشاركة من أطفال المدينة بل ينزل للمدينة كثير من أطفال القرى البعيدة والقريبة، ومن سكان الجبال المحيطة بصُور، بل أن بعضهم ينزل للمبيت قبل الشعبانية بيوم للمشاركة المبكرة، والأجمل أن بعض النساء الفقيرات يأتين من خارج الولاية للاستفادة من خيرات الشعبانية، وقد أزداد الأمر تطورا فخرجتْ الشغالات في مجموعات، لتحصيل نصيبهن من الشعبانية، وبركات النصف من شعبان تستوعب الجميع، فشعبان هو اسم الشهر الثامن من السنة الهجرية، وقيل سمى شعبان من الشعب والشعب هو الطريق في الجبل وكذلك شهر شعبان فهو طريق الخير الذي يتشعب من خير لخير. ولقد ذكر الإمام الغزالي لليلة منتصف شعبان أسماء متعددة، منها ليلة براءة وليلة الشفاعة وليلة المغفرة وليلة العتق وليلة القسمة والتقدير(انظر مكاشفة القلوب للغزالي) صفحة (456) يتبقى أن نعرف أن رسولنا الكريم كان يكثر من الصيام في هذا الشهر، لأسباب ليست موضوع نقاشنا الآن، وما لفت نظري هذا العام كثرة الاحتفالات بالشعبانية، فشركة الغاز احتفلت صباحا وقد أسعدت الاطفال بهدايا جميلة، وجمعية المرأة كان احتفالها عصرا قد استنفر حتى رجال الشرطة للتنظيم وتسهيل حركة المرور التي أثقلها تراكض الأطفال وذويهم من وإلى الجمعية، ويقال أن الأندية الرياضية أيضا قد احتفلت بالمناسبة، لكن كاميرتي لم ترصد سوى جمعية المرأة وشركة الغاز ، كما لاحظتُ عودة الملابس التقليدية ، وبعض الأفكار الجيدة لكن مع غياب تام للإعلام العماني ، لقد سجلت قناة (سماء دبي) احتفالات الشعبانية في الشارقة على مدى ثلاث ساعات متواصلة من أذان العصر لغروب الشمس، وكان احتفالا بهيجا خارج الاستوديو وداخله ، أما أولادنا في الشرقية فلم يسأل عنهم أحد … فهل ينبغي أن يكون الاحتفال في مسقط فقط ، حتى ترصده كاميرات الإعلام وتهتم به ، أو لأن هذه الاحتفالات لم تتشرف بتوطئة قدم من وزير ، وبالتالي كاميرات الإعلام لا تتحرك إلا لتسجيل ما يتحدث به وزير ؟
وإذا جاز لي أن أوجه كلمات ، خاصة وأنها مقالتي الأخيرة فأنني أوجه همساتي للحكومة ككل، وإذا كان لابد من التخصيص، سأقولها أولا: لوزارة الإعلام … من الملاحظ يا وزارة أن الاحتفالات بشكل عام خارج مسقط لا تحظى باهتمامكم !! ترى هل ينبغي علينا أن نستعين بإعلام آخرين لتغطية احتفالاتنا !! أم أن اسم عمان حكرا على مسقط العاصمة، ونحن متطفلون على موائد الوطن !! كثير من الزملاء عندما قلت لهم أنا ذاهبة صور لأحضر الشعبانية تساءلوا ما معنى الشعبانية؟؟ وكل هذا الجهل نتيجة بركة التجاهل الإعلامي لما يدور خارج مسقط.
الكلمة الثانية: أوجهها للجهات التي تحتفل في صُور وخاصة جمعية المرأة، طبعا من المعروف أن ملابس الشعبانية لجميع الأطفال تكون جديدة غير ملبوسة، حسب العادة، ومن ثم لا ينبغي إسعاد الأطفال بالملابس الجديدة والنقود فقط، ففي هذا الوقت المتخم بالإسراف يكاد الطفل أن يشتري له كل يوم ملابس جديدة، لهذا ينبغي أن تستغل هذه المناسبة لإحياء الملابس الفلكلورية الجميلة وتشجيع الأمهات على العودة للشعبانية بشكلها المميز، فيعلن قبل مدة للجميع عن أجراء المسابقات المختلفة لأحسن زي وأجمل تطريز يدوي، وأجمل شكل تقليدي لحناء الفتيات، وأجمل مصوغات زينة، وأجمل تمصيره للبنين، وأجمل تطريز لدشداشة الصبيان، وأجمل كلوتية (طاقية رأس) من صنع الأمهات للأطفال الصغار، ولا بأس أن نشترط الدخول بالملابس الشعبية فقط، لتقليل هذا التدفق والتزاحم للمشاركة من جهة، ولتجويد نوعية المشاركة، وعلينا أن نستغل قانون الثواب فالأطفال الفائزون يصورون ويحتفظ بصورهم في المكان، ويستدعى التلفزيون والصحف ويمنح الأطفال الفائزين هدايا متميزة نوعا ما، وتكرم أمهاتهم للاهتمام، وتشجيعا للتنافس الأفضل في مشاركات السنوات القادمة… وبإمكاننا توسيع المسابقة لتشمل أفضل وجبة شعبية تم إعدادها من قبل الأمهات.. الخ .
كلمة ثالثة: إذا كانت هذا العادة قد ضعفتْ في صحار فهذا تقصير من جمعيات المرأة هناك، فدورها إحياء تراث الولاية، لتتواصل معرفة الأطفال بثقافة مجتمعهم وعاداته، وممكن المحاضرات عن فضل الليلة وإحيائها للكبار، فعادات الشعوب ينبغي المحافظة عليها لا أن تسحق بأقدام التطور والمدنية الزائفة، هل تعلمون أن ماليزيا تخصص يوما لإحياء الزي الشعبي الماليزي ويمنع على الجميع ارتداء زي غيره في ذلك اليوم .
الكلمة الرابعة: لوزارة التراث إننا لا نعفيك من المسؤولية في إحياء مثل هذه المناسبات والاهتمام بها وتسجيلها عبر مختلف الولايات وليس المقصود الشعبانية فقط، بل كل احتفال يحمل خصوصية المدن العمانية، فالتراث ليس قلاعا وترميم حصون فقط، التراث في إحياء الزي وإحياء العادات والاحتفالات و المحافظة على الموروث المادي والثقافي، والاهتمام بالمختلف بل الحرص على النكهة المختلفة، إذ لا ينبغي أن نكون نسخا كربونية من العاصمة في احتفالاتنا وملابسنا ولهجاتنا وفنوننا الشعبية، ففعلا الثراء يكمن في الاختلاف.
الكلمة الخامسة للمصممات العمانيات: لا ينبغي أن ندخل على ثيابنا الشعبية ذلك التطور الذي يفقدها روحها حتى أصبح معظم ملابسنا الشعبية تبحث عن هويتها المطموسة، التطوير ليس تخريبا يا مصممات الأزياء العمانية، ففي كثير من الأحيان قد ألتبس علينا زينا بالزي الباكستاني والهندي لأن مصمماتنا مصرات على أن يصمم لهن وينفذ تحفهن خياطون في باكستان أو الهند… إذن ماذا تبقى لك من فضل في التصميم عزيزتي !!!
ختاما : أرجو أن لا نضطر في السنوات القادمة إلى أن نتسول شعبانيتنا من الحكومة، أي أن نتسول اهتمام الهيئات الرسمية الحكومية بما يحدث لدينا، حتى لا نردد صغارا وكبارا: هين (أين) شعبانيتي يا حكومة !!!