“سلمان” .. صارية أخرى تنكسر دون مقدمات

“سلمان” … صارية أخرى تنكسر فجأة دون مقدمات، وهي في أوج شموخها، وجذوة عطائها.. أصعب شيء حين تنكسر الصواري بغتة ولا شبيه لها، يؤدي دورها، ويسد خللها، ويرفأ نسيجها.كان يردد كثيرا بيتاً رثيتُ به الأديب الراحل ناصر البلال رحمه الله، ويُسمعه غيره، وهو يفعل هكذا دوما حين تعجبه الكلمة، وتأسره اللفظة، وتأخذ بمجامع قلبه الجميل الجملة الشعرية الآسرة
يَا أَيُّهَا الْصَّارِي الَّذِي كُسِرَت بِه كُل الْرِّيَاح وُضُوْؤُه لَم يَكْسِر
وبعده بيت آخر يختزل الرؤية الحياتية لمثل هؤلاء المبدعين الذي وهبوا حياتهم المضيئة في هدوء، تغلبهم الحياة، وتعركهم عرك الرحى بثفالها، ولكن رائحة قلوبهم تظل عابقة لأمد طويل.
الْمَوْت يَأْتِي لِلصِوَارِي بَغْتَة وَيُطِيْح بِالْعُرْس الْضَّحُوْك الْمُسْفِر
وحين تكون الصارية مشرّبة بالبحر، مضمّخة بالسفر، معجونة بماء النقاء والطيبة والصلابة والألفة الحنون، متماهية بالأدب والشعر فإن الألم الذي تتركه على نفوس الآخرين القريبة يصبح حادا وقاسيا، كالألم الذي يتركه الملح على الجرح.عرفته منذ ثلاثين سنة ونيف شابا جميلا وسيما هادئا، وتلميذا نجيبا لأساتذة أفذاذ كانوا أيامها ملء السمع والبصر، وحين تنشأ بين كوكبة من المبدعين، فإنك حتما ستسلك مسلكهم، وتقفو أثرهم، وتسير على جادتهم، حتى وإن كانت شائكة، ومليئة بالعثرات الجميلة كجادة الأدب.ذات مساء بعيدٍ توسط المسابقة الشعرية التي تختبر الذاكرة لتلقي بمكنون حفظك حسب الرّوي والقافية والحرف الأخير ، فكان ثابت الجنان، حاضر القلب، قوي الذاكرة، سريع الرد، سليم اللغة، واضح الكلمة، جميل الإلقاء في تؤدة وسكينة، وتواضع تعوّده الناس منه.
كانت المسابقة في أوجها، وألجأوه إلى حرف (الثاء)، وهو حرف من الصعوبة بمكان أن يتبادر إليك مستهلا به بيتا شعريا إلا إن كنتَ أعددتَ العدة لمسابقة كهذه في حالة محرجة شعريا على الأقل؛ لكنه برباطة جأشه المعهودة، وسكينته الجميلة، طلع علينا ببيت لأبي العلاء:
ثلاثةُ أيّامٍ هيَ الدّهرُ كلّه وما هُنّ غيرَ الأمسِ واليومِ والغَدِ
يبدو البيت منظوما بطريقة شعرية لا تبعث على الارتياح، حتى كدتُ أن أقول أنّ سلمان نظمه لحظتها. في بيته هذا الذي ألقاه علينا في تلك المسابقة يختزل الزمن بطريقة رتيبة، وسلمان لم يكن يحمل في نفسه الجميلة اللامبالية اهتماما كبيراً بالزمن، كان الزمن لديه لحظة عابرة تمتد وتقصر، وهو يملأه بالحياة والإنجاز، والمتعة البريئة التي يمارسها كإنسان عادي، لم يبتغِ من الحياة غير اليسير الذي يكفل له الراحة القصيرة، والنزر الذي يتجاوز به شدتها وقسوتها.لا أظن أن أحدا يشبهه في إيجابيّته، ورغبته الصادقة في العمل، وروحه البريئة التي لا تلتفت لبُنيّات الطريق، مهمته الوحيدة هي العمل، والعمل في الظل، لا تحت الأضواء الصاخبة، لم يكن يأبه بظهورٍ يبرز خصاله، ولا منصة تظهر إنجازه، ولم يعبأ بشهرة نسعى وراها لاهثين. لم نكن نتصور لجنة أهلية، أو عملا تطوعيا في المدينة ليس فيه سلمان، فمعنى ذلك أنك ستحمل على كاهلك عبء التقارير، وتنظيم العمل، وصياغة جداول الأعمال، وكتابة الرسائل المزعجة ـ قاتلها الله ـ.حين تجد نفسك في لجنة معينة فيها سلمان، فهذا يعني أنك بخير، وأنك في أمان من قسوة التقارير، ووطأة كتابة الرسائل على القلب، فهو يختار مكانا في زاوية الاجتماع، ولديه عدّته الملازمة له، أوراق بيضاء، وقلم مميز، وخط جميل لا تكاد تجد مثله في هذا الزمن، حتى وهو يكتب مسوّداته.يدوّن تفاصيل هذه الاجتماعات الثقيلة على القلب والجسد، ويصوغها بحرفيّة جميلة، ويضع نقاطها على حروفها المبعثرة من جراء النقاشات العقيمة، فلا يبرح مكانه إلا وقد انتظمها في وريقات يسيرة، يجمع فيها شتات القرارات ويلمّ فيها بعثرة التوصيات.
سلمان يحمل خصيصة مختلفة عن مُجايليه، وممن هم في مثل سنه، فقد كان معظمهم بعيدا عن ثقافة العصر، والتي تتخذ الحاسب الآلي محورا لها، ومنذ بداية العهد بهذا الجهاز العجيب كان هو قد طرقه من أوسع أبوابه، وخبر أسراره، وولج إلى عالمه المفتون، ونحن كنا نتلمس طريقنا فيه.ثم سوّلتْ له نفسه كعادة المبدعين أن يفتح نافذة للحاسب الآلي على نحو ما يفعل الأدباء التجار، فكان محل (آفاق الكومبيوتر) قد عرف مكانا وسط في المدينة، ولم يلبث طويلا، فقد كُتِب على من امتهن الأدب، واحترف الإبداع، حتى وإن كان من الغاوين؛ فإن الكساد الأزلي قد نخر كيان التجارة لديه، فكان أُفُقه الإبداعي يفوق أفقه التجاري، فانطلق يشق طريقة بعيدا عن التكسب بصنعة جميلة ولكنها بائرة الربح.ولكنّ الأدباء لا يتعلمون من سقطاتهم الدامية في مجال التكسب، فظل يبحث في داخله عن نشاط يفرغ به طاقته، غير ملتفت بما تؤول إليه، فهداه فكره المنطلق إلى الجديد إلى افتتاح محل يقوم على التصميم والأعمال الفنية، وبالرغم من كبواته المادية فيه، إلا أن حصان عزيمته لم يكبُ، وعزيمته لم يفت لها عضد، ويمضى بقية يومه في جهازه ينقب عن إنجازاته التي لم تتم، وتصاميمه الجميلة التي لم تكتمل، وإبداعاته التي حاصرتها قسوة الأيام. بعد ذلك البيت الشعري لأبي العلاء والذي ألقاه سلمان في المسابقة الشعرية، بيت آخر، وربما أبيات، لعلها تضيء الحالة الإنسانية المشرقة له، يقول أبو العلاء:
وما البَدرُ إلاّ واحِدٌ غيرَ أنّه يَغِيبُ ويأتي بالضّياءِ المُجَدِّدِ
فلا تَحْسِبِ الأقْمارَ خَلْقاً كثيرةً فجُمْلتُها مِن نَيّرٍ مُتَرَدِّدِ
بدر واحد يدركه السِّرار، ثم تنجلي أيامه، ويتجدد ضياؤه، ويخرج من حالته التي تعتريه أحيانا ليظل قمراً مشرقا، فمن المؤكد أن الأقمار ليست كثيرة، ومنذ عهدنا سلمان وهو يدور في فلك المدينة، قمراً جميلا، ولذا كان غروبه الأخير مؤلما وحزينا، أحالنا إلى حالة من الأسى المؤطر بظلمة الغروب.وهو الذي عهدناه ينظم الشعر، ولا يبوح به، ولا يقول لك إني دبجت قصيدة واحدة، ولم يأبه بفرحة الشعراء الذين تطير نفوسهم فرحا بقصائدهم، ويرتفعون بها على البشر، ويحلقون بها شواهق الحياة، وحين تصطدم بهم، فتكتشف خواءها الشعري، وفراغها الإبداعي يكون لحظتها السقوط مدويا!!.من المؤكد أن سلمان كان ذكيا، لم يدنُ من هذه التجارب، ولم يقترب من وهج الشعر، ولم يكتوِ بنيرانه، ولكنه حظي بدفء القصائد، فكان راويتها الجميل، يقول لك البيت والبيتين، والمقطوعة القصيرة التي أرهق نفسه في انتقائها، وأجهد ذاته في إخراجها من مكنونها العصي، فتكون ابنة وقتها، منسجمة مع موقفها الحياتي، متسقة مع مقام الحال.سلمان هو الوحيد الذي يفاجئك بقصيدة جميلة، وببيت شعري أثير يستحوذ عليك فيملأ كيانك، ويمتد كي تخضرَّ روحك طوال اليوم، ولأن أصدقاءه كثيرون، وأحبابه يملؤون العفية، فهو مهيأ بزاده الشعري، ممتلئ حتى الثمالة بكنانته المفعمة بالقصيد.هل تريد شيئا يليق بالمقام؟ أم تريد شعراً مِنَ الذي يباعُ “خمساً ببيستين”؟!!. هكذا يبادرك بعرض شعري مؤطر بابتسامة جميلة هادئة، ووراءها شيء كثير الألم الحياتي الذي قلما يطفو على روحه الجميلة.سلمان هو الوحيد الذي ينقلك من جزالة المعلقات وسطوتها، ويذهب بك بعيدا حتى يدفعك إلى شاطئ الفنون الشعبية بكل صخبها وإيقاعها، وحتى سماجتها وابتذالها. دخلتُ عليه مكتبه ذات صباح، وبعد أن سلمتُ عليه، أشار إليّ: أن احتسِ فنجاناً من القهوة، كانت قد وُضعتْ على الدولاب الحديدي الذي يقابله من الناحية الأخرى، وكأنه يقول لي تهيأ لجوهرة شعرية فريدة!.. وريثما تناولتُ تلك القهوة التي لم تكن نكهتها تحمل شيئا من صفات القهوة سوى لونها الداكن، كعادة القهوة المعدة في الدوائر الحكومية. انتظر هو قليلا حتى أخرجتِ الطابعةُ ثلاث صفحات تحمل في داخلها لامية العرب (للشنفرى)، وبدأ يقرأ قراءة رصينة جزلة تنسجم مع القصيدة، وفي داخلي صوت يهزأ بي: مالكَ وللشنفرى يا سالم؟!! أنتَ لست أهلا للقصيدة منذ هذا الصباح الباكر. كان سلمان يقرأ وهو فخور بالقصيدة كفخر عمرو بن مالك الأزدي (الشنفرى) ذاته بلاميّته، هل يحمل سلمان شيئا في داخله من غربة الشنفرى؟ فراح ينثر هذه القصيدة عليّ ظنّاً منه أني سأرافقه لحظاتها الجميلة، وسأقف على محطاتها الشعرية، المسيّجة بالجزالة الجاهلية الرصينة، وسأشاركه فرحته بالقصيدة.
سايرته حتى بلغ ثلث القصيدة، ودخلنا في انغلاقها الشعري التي تحتاج من كليْنا فكّاً لشفراتها اللغوية، نظر إليّ وهو يرى عناء التلقي على محياي، فابتسم ابتسامة حانية قطع بها قسوة القصيدة!
فسألني: ما رأيك؟!
– ماذا سيكون رأيي بعد جرعة شعرية قوية من مَعِين الشنفرى!!
دفع إليّ القصيدة بعدها، كمن يهدي زهرة خزامى رشفتْ من معين الصحراء فكانت نادرة في وجودها، عزيزة في انتقائها، ومضى يومي ذلك جميلا بجزالة الشنفرى، وإلقاء سلمان.
سلمان له قلب في اتساع البحر، وامتداد الصحراء، يسع الصغير والكبير، والقريب والغريب، كيف استطاع ببراءته وتواضعه أن يحتوى المدينة بأطيافها، يشهد له الجميع أنه يحمل في طياته تواضعا رفيقا، ويضم بين جوانحه قلبا يجمع شتات الرفاق، منسجما مع الآخر، متصالحا مع ذاته الهادئة حينا، القلقة في أحيان كثيرة. وإن شئت أن تبحث عن مثال صارخ لنكران الذات فعليك بسلمان، يُدني لك البعيد، ويبحث لك عن الشارد، ويمنحك ما يملكه دون تردد ولا منة، وربما كان ممتلئا شظفا وفاقة، ويذهب به حياؤه وتعففه كل مذهب. لم يفطن له الأدباء كقيمة أدبية يُعنى بأدبهم، ويسجل قصائدهم، ويروي أشعارهم، ولم يعتنِ هو بذاته المبدعة فاستطاع أن ينجو بنفسه من وهج الشعر وأوار الأدب، فكسب ذاته الجميلة، ولكن القصيدة خسرته؛ وحين تخسر القصيدةُ روحا إنسانية جميلة كسلمان فهذا يعني أنها خسرت الكثير. والسؤال الذي يحيرك كيف خرج سلمان من شَرَكِ الشعر، وكيف قفز عن وهدات القصيدة، وكيف قاوم ببراعة هادئة صخبها وغوايتها؟!!.بيد أنه ظل محبا قصيا، وعاشقا نائيا، يدور حول الحمى الشعري ولمّا يقع فيه. سلمان من القلائل الذين يرغبّون لك الصحبة الحقيقية، ويسهّلون عليك الصداقة، ويدفعونك للقرب منهم دون عناء، وحين تقترب منه أظلك بفيئه الوارف، ومنحك قلبه الندي، وبسط لك أريحيته الكريمة.
سلمان كان من أرق الناس الذين عرفناهم قلبا، وأطيبهم معشرا، وأحسنهم خلقا، وأرفقهم صحبة، وأنداهم يدا، وأقلهم تكلفا، وأعفهم نفسا، وأجملهم روحا. كانت حياته قصيدة جميلة، صاغها بتواضع جمٍّ، وأطّرها بتلقائية بريئة، وعنونها بابتسامة مشرقة، ولأن القصائد لها نهاياتها الحتمية، فقد كانت خاتمته جميلة، كختام القصيدة.. فارق الحياة في عصر الجمعة المباركة، وفي رجب الله المعظم، خاتمةٌ يحسده عليها الأدباء، وربما يغبطه عليها حتى الأولياء.

د. سالم بن سعيد العريمي

Exit mobile version