قلهات….ملاذ الملوك

أثير –  تاريخ عمان-إعداد: نصر البوسعيدي 

لا شك بأن مدن عمان التاريخية التي لا زالت أطلالها وآثارها أكبر دليل على عظمتهاومكانتها عبر القرون القديمة قد سطّرت ملاحم من المجد والمكانة فاقت كل نظيراتها من تلك المدن والحضارات التي تجاورها.

ترقد هناك تلك المدينة الساحلية الحالمة التي تقع في الجزء الجنوب الشرقي من عمان على مساحة 35 هكتار تحميها من جهتي الشرق والغرب جبال وبحر، وفي الشمال أطلال خور قلهات الذي كان ميناء حيويا في القرون السابقة، وأما في الناحية الجنوبية توجد بقايا سور دفاعي ضخم يمتد من الشاطئ ويحيط بالمدينة العتيقة حتى أعلى الجبل الذي يرقد فيه أطلال مبنى منعزل لتلك الأميرة التركية ( بيبي مريم ) وبقايا أطلال مبعثرة ومعتقة بفيروز تايلندي، وفارسي  تحكي لنا تاريخ النشاط  البحري ،والتجاري الذي كانت تمارسه هذه المدينة التي أصبحت ملاذ للملوك بمختلف أجناسهم من الأتراك والفرس والمغول.

لقد كانت السفن تلقي بمراسيها في ميناء قلهات قادمة من هرمز وعدن والهند لتفريغ شحناتها النفيسة من السلع المختلفة المجلوبة من كاثاي، والصين، وافريقيا ،وتعود محملة من هذه المدينة العمانية بالخيول العربية الأصيلة المولودة سلالاتها في سهول قريات، والمفضلة كثيرا عند ملوك جنوب الهند وسلاطين دلهي، وحكام فارس، فقد كانت تمتلئ اسطبلاتهم الملكية بها على إمتداد العصور القديمة وحتى حقبة العصور الوسطى .

إن قلهات وبما تحويه من آثار قديمة على مر العصور قد صنّفها العلماء بأنها أقدم مدينة عمانية على الإطلاق رغم أن المصادر العمانية التي كتبت عن قلهات كانت ضئيلة جدا والسبب يعود للمؤرخين العمانيين الذين كانوا يدونون فقط الأحداث في القرون المتأخرة الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين ، أي بعد مئات السنين التي كانت فيها قلهات مدينة للملوك بموقعها وأهميتها التجارية ومكانتها في تلك العصور بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، إضافة إلى إن المؤرخين العمانيين جميعهم كان هدفهم تدوين سير السلالات الحاكمة، والأئمة الذين حكموا بمختلف فتراتهم، فلم يكن النواخذة ، وأصحاب التجارة بقلهات مثلا من ضمن إهتماماتهم، وهذا حال أغلب المؤرخين على مستوى دول العالم فلم يكن عوام الناس والتجار والحرفين والجنود ضمن دائرة إهتمامهم.

أما بالنسبة للمؤرخين العرب القدامى والذين كانوا لا يعترفون مثلا  بالمقاومة العمانية والإنتصارات التي كانت تحققها ضد الغزاة واستقلالها في أغلب فترات تاريخها بمدنها العظيمة ودورها في التاريخ كان سببه مثلما ذكر السياسي البريطاني مايلز ( 1872 – 1886م ) إختلاف المذهب الذي كان يميز عمان عن البقية وهو المنطق الوحيد الذي يجيب على كثير من التساؤلات في إهمال هؤلاء لتاريخ عمان وحضارتها الضاربة منذ القدم .

ولا شك بأن أغلب الدراسات التي تتحدث الآن عن قلهات ارتكزت بشكل كبير على بعض الشواهد المتفرقة لكتاب ورحالة عرب ومؤرخين فرس جابوا المنطقة خلال العصور الوسطى بالإضافة إلى الشواهد، والآثار التي ترسم لنا صورة متناغمة عن قلهات والوضع السياسي، والثقافي، والإقتصادي فيها خلال عدة قرون وحتى ما قبل الميلاد.

لقد لعب موقع قلهات الإستيراتيجي وطبيعتها التي حصّنت المدينة مع ما صنعه البشر بشكل مبهر بأن تصبح ذا ثقل تجاري وسياسي في المنطقة وما يجاورها من حضارات ، ولقد اندهش الرحالة الأوربي (ماركوبولو) عند مروره إلى الصين في عام 1292م، من صلابة موقع قلهات من حيث المكان والتحصينات  وقال : ” إن ميناء المدينة كبير جدا وفي منتهى الجودة ، وتأمّه العديد من السفن المحملة بالبضائع، ويستخدم لتصدير الخيول العربية الأصيلة إلى الهند “.

فقلهات تصبح ذا اتجاهين ففي الشرق والشمال الشرقي تواجه عبر بحر العرب سواحل مكران وجنوب شرق بلاد فارس، وفي الاتجاه الجنوبي  والجنوبي الغربي تواجه عبر السهول الخصبة وادي بني جابر ووادي منقل المؤدي عبر مسالك الجبال العالية للمنطقة الشرقية لداخلية عمان.

وبدون أي شك فقد جذبت موارد قلهات الحيوية كافة المستوطنين منذ العصور القديمة أي تقريبا منذ الألفية الرابعة على الأقل قبل الميلاد ، وذلك لكل الإمكانيات التي تميزها عن باقي مدن المنطقة ، فإلى جانب الموقع الجغرافي وثروات هذه المدينة فإن الرياح الموسمية التي أتاحت  لهم الإبحار في المحيط الهندي بكل أريحية ساهمت بشكل كبير في هذا الإستيطان والنشاط التجاري الذي تميزت به قلهات والتي كانت الميناء الرئيس الذي تتوقف به السفن على ساحل بحر العرب أثناء رحلاتها من هرمز إلى الهند والعكس، فالإبحار من هذه المدينة إلى مكران مثلاً كانت ممكنة طيلة العام وهذا الذي جعل منها مدينة مهمة ذات موقع استيراتيجي منذ عصور التاريخ القديم .

خلفية تاريخية عن قلهات:

لا شك بأن المصادر التاريخية والنقوش والآثار التي تعود تواريخها إلى ما قبل الميلاد كانت تشير إلى عمان بمجان مثلما وردت في النقوش الآشورية والبابلية وكذلك في النقوش الآشورية الحديثة التي وثقت رحلة الأشهر الستة التي قام بها ملك أرض كيد والمسمى بالملك ( بيد ) الذي توجه برحلته إلى نينوى لدفع الجزية في عام 640 قبل الميلاد.

كما عرفت عمان من خلال النقوش والمخطوطات التي تعود ( لشابور الأول – 242 قبل الميلاد – ) باسم مزون كجزء من الإمبراطورية الساسانية، وكل هذه القراءات والمقتطفات تشير على أن سكان عمان منذ زمن سحيق كانوا خليطا من السكان غير العرب،  فلقد أشارت الأدلة التاريخية من خلال الحفريات بأن عمان سكنها قوم في الألفية الأولى قبل الميلاد يدعون (الإختيوفاغوي) وقوم يدعون (الماكاي) وهم ليسوا عربا بل ساميون غربيون .

ولكن ما يهم هنا بأن (مالك بن فهم الأزدي)حينما هاجر إلى عمان وبرفقة 6000 آلاف من رجاله نتيجة تدهور الأحوال الإقتصادية، والسياسية في الممالك القديمة بجنوب شبه الجزيرة العربية بعد قطع طرق القوافل من قبل الفرس الذين انتصروا على بابل عام 539 قبل الميلاد أو بسبب إنهيار سد مأرب مثلما تقول أغلب الروايات التقليدية ،  وجد بأن الفرس قد سيطروا على أجزاء كبيرة من عمان بقيادة (دارا بن دارا بن بهمان) فنزل مالك في مدينة قلهات وترك هو وجيشه عائلاتهم في هذه المدينة ثم اتجه ليحارب الفرس في سهل سلوت القريبة من نزوى في معركة شرسه انتصر فيها مالك بن فهم على الفرس وقتل قائدهم وطردهم من عمان ليصبح بعدها مالك بن فهم حاكما لعمان ومتخذا من قلهات عاصمة له لتصبح بعدها هذه المدينة العاصمة الساحلية لعشيرة مالك بن فهم من قبيلة الأزد لعدة قرون.

ولا ننسى بأن (سليمه بن مالك بن فهم) حينما قتل والده بالخطأ هرب من قلهات متجها إلى كرمان وهي منطقة تتواجد في جنوب شرق بلاد فارس، وأصبح حاكما لها بعدما استطاع هو وأحفاده التزاوج من السكان المحليين بفارس وكوّنوا بذلك نفوذا وقوة تجارية بين كرمان وقلهات والهند .

ولذا فإن كل الملوك الذين حكموا كرمان في تلك الفترة وما بعدها حرصوا كل الحرص على أن تصبح قلهات هي المركز الرئيس لنشاط تجارهم، ولذا فإن السلاجقة الأتراك حينما احتلوا كرمان وطردوا البوهيين زحفوا إلى قلهات وسيطروا عليها في عام 1063م بقيادة الحاكم السلجوقي ( كاوارد ) واستمر ذلك حتى عام 1167م، لتصبح قلهات بذلك معلما لبداية العلاقات السياسية بينها وبين السلالات الحاكمة بكرمان وهرمز القديمة التي أسس سلالتها الحاكمة (محمد درهم كو) والذي أتى من سبأ متجها إلى قلهات ليستقر فيها برهة من الزمن ويترك فيها إبنه وبعضا من أفراد عائلته ليواصل كو مسيرته نحو الجانب الآخر من الخليج الفارسي قبل أن يستقر بهرمز القديمة التي تختلف عن هرمز عمان ، فهرمز القديمة تعني تلك المدينة التي تقع في كرمان، وأصبحت الميناء والسوق الرئيس فيها بحلول القرن العاشر ميلادي .

ولما كانت تلك السلالات الحاكمة في هرمز وكرمان تدخل في صراعات سياسية لا نهاية لها ، فقد كانت قلهات وهي العاصمة العربية لهرمز المقر الآمن لإيواء أساطيل وملوك هرمز وعائلاتهم من الأسر الحاكمة  التي رفهت نفسها كثيرا بقلهات التي تميزت بمبانيها الجميلة، وأسواقها ،ومساجدها واحتوائها على الكثير من الحرفيين والتجار والبحارة وطبقات النبلاء البيروقراطيين من جنسيات مختلفة نتيجة استقرارها ونشاطها البحري التجاري.

وفي عام 1225م أصبح (محمود القلهاتي) – نسبة إلى قلهات – حاكما على هرمز، إذ احتل بقوته ساحل خليج عمان، والبحرين، والقطيف، وجعل من قلهات ملاذا له، وبعد وفاة محمود القلهاتي عام 1278م تصارع أبناؤه على الحكم، ووصل بهم الحال الى الإقتتال، واتباع سياسة الإغتيالات بين أفراد العائلة الواحدة كالذي فعله (مسعودا) المستبد ابن محمود القلهاتي الذي ذبح أخاه (نصرات) ليصل إلى الحكم ولتندلع بذلك حالات التمرد والعصيان في قلهات بقيادة التركي (بهاء الدين أياز) الذي عمل مع محمود القلهاتي وابنه المغدور به نصرات

ولذا فقد قام أياز بتجهيز جيشاً لقتال مسعود تاركاً قلهات تحت تصرف زوجته التركية ( بيبي مريم ) والتقى الجيشان بهرمز وانهزم مسعودا الذي فر من المعركة هاربا لتصبح هرمز بعدها أرض للصراع بين اياز ومسعودا وجيشه الكبيرة من المغول ، ولكن الغلبة كانت دائما ترجح كفة ذلك التركي الذي جعل من قلهات مقرا رئيسا له ولعائلته وثرواته حتى مات فيها وورثت عرش حكمه بقلهات الأميرة التركية بيبي مريم التي استمرت تحكم هذه المدينة لمدة أربعين عاما ازدهرت فيها قلهات بشكل كبير، وظلت قلهات بعهدها ملجأ للأسر الحاكمة التي تتصارع في كرمان وهرمز،  حتى ماتت الأميرة بيبي مريم  ودفنت هناك بذلك الضريح الذي لا زال قائما ويحمل أسمها حتى يومنا هذا.

إذن فقلهات لم تكن في التاريخ مدينة عادية ، بل هي ملاذ الملوك من القبائل العربية الأزدية  والهرمزية وأول مرسى للمسافرين الذين ارتحلوا من اليمن إلى كرمان ، كما أنها كانت ميناء بحريا نشطا ومركزا تجاريا مؤلفا من مختلف الجنسيات العالمية المختلفة ومحط الرياح الموسمية طوال فترات السنة ، كما إن قلهات كانت العاصمة العربية الوحيدة للأسر الهرمزية قبل أن تختفي أخيرا من صفحات التاريخ.

*المرجع : مجلة الدراسات العمانية ، العدد 15 ، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان – 2008م

Exit mobile version