مقال العدد الخامس لمجلة بحرُنا: تاريخ صور العمانية الملاحي الحديث

محاضرة ألقيت بمناسبة التوأمة بين مدينتي صور العمانية واللبنانية والتي نظمتها الجمعية العمانية للكتاب والادباء

 

   أرخ العديد من المؤرخين الكلاسيكيين للعرب وعلاقتهم بالبحر حيث ذكر سترابو(64 ق.م) أن قبائل شبه الجزيرة العربية قد دعمت وجودها ليس بتربية الحيوانات والبستنة والحرف فحسب، وإنما بالتجارة البحرية مع الهند وأفريقيا، كما ذكر بطليموس (87م) عن عمان أن مجدها وشهرتها التي كانت مصدر فخرها إنما ‏جاءت عن طريق ما كانت تقوم به من نشاط بحري وملاحي وليس عن طريق النشاط ‏البري.

ومن نافلة القول: إن الظهير الطارد لعمان ومناخها الجاف لم يجعل العمانيين يضربون صفحا عن استغلال موقعها الجغرافي المطل على ثلاثة أبحر هي: الخليج العربي وبحر عمان وبحر العرب المتصل بالمحيط الهندي، فامتطوا البحر على عروش من خشب وسطروا ملحمة على صفحاته ما زال تأثيرها باقٍ إلى اليوم في كثير من بقاع آسيا وأفريقيا الشرقية.

وقد اشتهر العمانيون منذ القدم بريادة البحار، وذكر المؤرخون العديد من الموانئ العمانية، وتعتبر صور العمانية أقدمها، إذ ظلت تحتفظ بمسماها التاريخي الذي تشترك به مع شقيقتها اللبنانية، ومن الواضح للعيان وجود فجوات تاريخية غير مغطاة فيما يتعلق بتاريخ صور العمانية على النقيض من صور لبنان والتي لها تاريخ متسلسل تعاقبت عليه حضارات شتى، ومع أن ذكرها الأول الذي ارتبط مع استيطان الفينقيين لها حفظ لها الاسم، ولكن تعاقب سكنى القبائل العربية عليها وربما انقطاعهم في فترات مختلفة من الزمن عنها، وعدم توفر مصادر موثوقة تشير الى استيطان متسلسل يوجد للباحثين فرصة للبحث في تاريخ قد يظهر لنا الكثير مما لا نعرفه عنها.

 

إن الدور الذي قامت به الرياح الموسمية في تحريك تلك السفن حول منطقة حوض المحيط الهندي والبحار المحيطة به، لا يمكن إهماله إذ أن هبوب تلك الرياح في أوقات معلومة من السنة؛ مكن أهالي المناطق الساحلية لهذه الدول من استغلالها في الوصول إلى وجهاتهم التي يقصدونها وساهمت في صنع حراك حضاري فاعل في هذه المنطقة من العالم، والرياح الموسمية تهب وقت الشتاء من الجهة الشمالية الشرقية من شهر نوفمبر إلى فبراير، حيث يبدأ موسم السفر، أما الرياح الجنوبية الغربية المعاكسة فتبدأ من شهر إبريل وحتى شهر سبتمبر من كل عام .

لا يمكن الكتابة عن التاريخ الملاحي لصور دون ذكر خور صور الكبير والذي كان السبب الرئيس في تهيئة الظروف المثالية لبناء وصيانة السفن والحفاظ عليها؛ وذلك بسبب خاصية انزياح المياه عنه بشكل شبه كامل عند حدوث نوبات الجزر مما سمح بالعمل فيه بحرية خصوصا عند القيام بعمليات الصيانة الكاملة للسفن، كما كان اتساعه ملائما لضم تلكم الأعداد الكبيرة من السفن متفاوتة الأحجام والأنواع، إضافة إلى ضيق مدخله والتفافه بشكل يمنع تأثير الأمواج على حركة السفن بالداخل.

إن الفترة الممتدة من العام 1803م إلى العام 1970 هي الفترة الذهبية للتاريخ الملاحي الحديث لصور، ويرجع ذلك إلى توفر المادة العلمية والمراجع المعتمدة عن طريق كتابات النواخذة أنفسهم أو الرحالة الذين وصفوا الميناء وأماكن بناء السفن وكذلك أحجام السفن وأنواعها حيث كانت عمليات بناء السفن والملاحة على أشدها .

تحولت صور خلال تلك الفترة إلى ما يشبه الورشة الكبيرة حيث لم تقتصر على أحواض صناعة السفن، إنما عززتها ورش مساندة كورش الحدادة التي وفرت المستلزمات من المسامير مختلفة الأحجام، وجميع أدوات الصناعة الأخرى إضافة إلى مجاميع مختلفة من المخازن التي كانت تستقبل الليمون المجفف والبسور والمنتجات التي كانت تأتي من داخلية عمان وشمال المنطقة الشرقية استعدادا لتصديرها، كل ذلك الحراك وفر مناخًا خصبًا للعمل حيث استقرت عوائل عمانية بأكملها في مدينة صور وساهمت كل حسب ما يجيد في الإعداد لموسم الإبحار بشكل أو بآخر مما ضاعف ساكني صور، وتوسعت المدينة أفقيا بشكل متسارع .

إن الحديث عن صناعة السفن وتحولها من السفن الصغيرة إلى الأكبر حجما هو حديث ذو شجون ويحتاج إلى تفاصيل كثيرة، إلا أنه من المؤكد أن عوائل معروفة في صور هي من أخذت على عاتقها تلك المهمة وتوارثت الصنعة جيلا بعد جيل، وكان في صور أكبر أحواض بناء السفن الخشبية في شبه الجزيرة العربية، وقد تم استخدام أنواع مختلفة من أخشاب الأشجار العمانية كالسدر والسمر والقرط لبعض الأجزاء العلوية من السفينة، أما ما كان يستخدم للأجزاء السفلية، فقد كان يتم استيراده من الهند كأخشاب الساج والبنطي والفيني والينقلي، ومن أفريقيا كأخشاب الميط وأنفوله وغيرها وكانت تستخدم في ذلك أدوات نجارة بدائية تثير الدهشة عندما ترى منتجها النهائي تلكم السفن الكبيرة متقنة الصنعة وكبيرة الحجم.

عندما نتحدث عن الأسطول التجاري الصوري، فإننا نتحدث عن زهاء ثلاثمائة سفينة خشبية عابرة للمحيطات معروف أصحابها ومحصورة بأسمائها وأنواعها، وكان جلها من نوع الغنجة والسمبوق وبدرجة أقل من نوع البوم والذي دخلت صناعته متأخرة إلى صور من شمال الخليج، وكان يوجد كذلك البدن السّفّار علمًا بأن صناعة الغنجة قد تلت البغلة والتي لم تكن تختلف عنها سوى في بعض الفروقات الطفيفة، كاختلاف شكل القبيط (جسم خشبي يوضع على مقدمة السفينة يشبه الطائر لتمييز نوع السفينة)، وأيضا كثرة الزخارف في المؤخرة.

تتفاوت أعداد أطقم السفن ويرجع ذلك إلى تفاوت أحجامها وتتراوح أعداد الطاقم للسفينة الواحدة من تسعة أفراد إلى ثمانية عشر فردا قد تزيد قليلا في بعض السفن الكبيرة، ويتكون الطاقم من النوخذا والمجدمي(رئيس البحارة) والسكوني(ماسك الدفة)، والوكيل(مسؤول المؤونة) والطباخ والبحارة وبعض الصبية الصغار كبحارة تحت التدريب، وكانوا يقومون بأعمال بسيطة كالمناولة ومساعدة البحارة في أعمالهم.

يبدأ موسم الإبحار مع بداية النيروز في بدايات شهر أغسطس وكان يتجه أولا إلى البصرة من العراق، محملا أخشاب الكندل التي تستخدم لتسطيح الأسقف والتي تم تخزينها في خور الحجر (برأس الحد من ولاية صور)من الموسم الفائت، كما كان يصدر الليمون المجفف والتبغ والسمك المملح كسلع رئيسة مع وجود سلع ثانوية لحساب البحارة كبعض الملابس المصنوعة محليا ونوع محلي من الطين يسمى في العراق بطين خاوة، له عدة استعمالات هناك، وبعد وصول السفن إلى البصرة تبدأ في تحميل ما تختاره من أنواع التمور وتأخذ هذه العملية حوالي الشهر، تبدأ بعدها السفن في العودة إلى صور مستغلة الرياح الشمالية الشرقية ويتجه بعضها إلى الهند مباشرة، أما البعض الآخر فيبيع بعضا مما لديه من الحمولة في صور، ويتجه لتحميل زعانف أسماك القرش من السواحل الشرقية لعمان قبل اتجاهه إلى الهند.

ومن هناك ترجع السفن محملة بالأرز والسكر والشاي والبن والبهارات والملابس والأخشاب اللازمة لصناعة السفن فيما تتجه بعضًا منها إلى شرق أفريقيا، محملة بالقرميد والذي يعتبر حمولة ثقيلة جدًّا على السفينة ورغم ذلك تخاطر بعض السفن بحملها طمعا في عوائدها المجزية.

أما موسم شرق أفريقيا، فتمر السفن فيه على العديد من البنادر متزودة بالمياه الصالحة للشرب والمؤونة وتبيع وتشتري طوال خط الرحلة حتى تبلغ مقصدها حيث تكون الحمولة الأساسية لها من هناك الأخشاب وخصوصا خشب الكندل، وتظل السفن راسية في موانئ شرق أفريقيا ومتنقلة هناك لبعض الأعمال الأخرى حتى بدء هبوب الرياح الجنوبية الغربية في شهر أبريل وهي رياح العودة إلى الوطن، منهية مسيرة تتكرر سنويا زهاء الثمانية أشهر يبدأ بعدها تفريغ حمولة المراكب ورفعها على الساحل ودهنها بزيت السمك وتغطية أسطحها من أشعة الشمس تجنبا لحرارة الصيف، ويتم إجراء الحساب الختامي للبحارة وتسريحهم لقضاء إجازة الصيف مع أهلهم انتظارا للموسم التالي فيما يتم تحويل معدات السفن من أشرعة وصوارٍ وحبال إلى العمارات الخاصة بكل سفينة وهي بيوت مخصصة لذلك الغرض.

اعتمد النواخذة الصوريون في ملاحتهم على الخرائط التي كانت تصدر من المكتب الأدميرالي البريطاني في الهند، وكانت البوصلة وجهاز الكمال عدتهم الأساسية للملاحة ولتحديد مواقعهم في البحر كما تم استخدام قوائم شملت الحساب العربي القديم والجديد والذي كان عبارة عن مواقع البنادر المتفرقة ومواقعها بالطول والعرض والذي تم استخراجه من الخرائط الأوروبية، كذلك ذاع مؤلف النوخذا الكويتي عيسى القطامي بين المتأخرين من النواخذة ونسخ كثيرا لحسابهم، بالرغم من وجود العديد من المؤلفات الصورية فائقة الدقة والتي تم تحقيق أحداها من قبل وزارة التراث والثقافة بالسلطنة، وهو مخطوط معدن الأسرار في علم البحار، وبه جداول لخطوط الطول والعرض للموانئ التي يمرون عليها، ورسوم للسفن الشراعية وطريقة استخدام الكمال وملاحظات بحرية عامة.

إضافة إلى الرحمانيات (مخطوطات بحرية) كانت لدى النواخذه روزنامات(دفاتر يوميات) يسجلون فيها يومياتهم شاملة ملاحظاتهم عن الطقس والأحداث المهمة في ذلك اليوم، وهو عرف ما زال سائدا إلى اليوم لدى البحريات العريقة كما استعان النواحذه الأوائل بالساعة الرملية لقياس الزمن لتحديد سرعة السفينة بواسطة جهاز الباطلي، واستعاضوا عنها بعد ذلك بالساعة الحديثة.

أما قياس الأعماق فكان يتم بواسطة البلد وهو حبل ذو نهاية من الرصاص وعليه علامات معينة تحدد العمق بكل سهولة، وكان يتم وضع قطعة من الشحم في قاع البلد حتى يعرف نوعية القاع من خلالها إذا ما كانت مناسبة لرمي المخطاف أم أنها من النوع الصخري غير الصالح لذلك، علاوة على ما سبق اشتهر بعض النواخذة في تعليم الطريقة السليمة لقص وتفصيل الشراع حسب النسب الصحيحة.

واجه الأسطول الصوري العديد من التحديات السياسية وأخرى تتعلق بأحوال الطقس المختلفة، فعلى الصعيد السياسي اضطر النواخذة الصوريون إلى رفع الأعلام الفرنسية نكاية بالأنجليز الذين ما فتئوا يضايقون المراكب الصورية بالتفتيش أو التأخير تحت ذرائع مختلفة منها: تهريب السلاح أو تجارة الرقيق حتى وصل الأمر إلى حصول أزمة سياسية بين الفرنسيين والأنجليز بسبب مشكلة رفع الأعلام، انتهت بقرار محكمة لاهاي الشهير في العام 1905م بمنع فرنسا من منح تراخيص لرفع العلم الفرنسي لرعايا سلطان مسقط إلا من يثبت أنه يتمتع بحمايتها، علاوة على ما سبق تعرضت بعض السفن الصورية للتدمير وفقدت مع بحارتها بالكامل من قبل الغواصات اليابانية والألمانية لاشتباهها في تهريب المؤونة لصالح الحلفاء، ورغم كل ذلك واصل الأسطول مهمته في إنعاش الحركة التجارية في المناطق التي كان يقصدها.

كان للظروف المناخية الطارئة تأثيرها الواضح على بعض السفن التي كانت تعتمد في سيرها على الرياح، فقد حدثت العديد من حالات الغرق والتكسر بسبب الأنواء المناخية كظهور الضباب المفاجئ والأعاصير والعواصف الشديدة ولعل حادثة غرق السفينة سمحة العام 1959م كانت هي الأشد مرارة والأكثر تذكرا، بسبب العدد الكبير الذي فقد خلال ذلك الأعصار (141) شخصا، وجلهم من المسافرين القادمين من شرق أفريقيا إلى عمان على أن سمعة البحارة الصوريين مع ذلك كانت مضرب المثل في شجاعتهم ومهارتهم وقدرتهم على تحمل أهوال البحر وشدائده .

تكمن العظمة الحقيقية للصوريين في تحولهم السريع جدا من البداوة إلى ارتياد المحيطات وتحويل المجتمع الصوري إلى مجتمع منتج وفاعل في غضون فترة قصيرة جدا من عمر الزمن، كما أن استيعابهم لعلوم البحر والتأليف فيه كان لافتا في وقت لم يوجد فيه أكثر من كتاتيب لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية وأساسيات الرياضيات، كما أن استغلالهم للموارد المحلية كان مثاليا حيث تم توظيفها بشكل خدم صناعة السفن بشكل كبير.

لازال الكثير من كبار السن في عمان وجزيرة العرب والهند وأفريقيا يذكرون دور الأسطول الصوري في إغاثة عمان وبعض دول الخليج بالمؤن الرئيسية إبان الحرب العالمية الثانية، ويذكرون مساهمتهم الكبيرة في إنعاش العديد من القرى التي كانت السفن تمر عليها للتزود بالمياه الصالحة للشرب والأسماك والسلع المختلفة، وكانت السفن بالمقابل تزودهم بالمؤونة اللازمة لمعيشتهم ويتذكر هؤلاء كيف كانوا ينتظرون وصول السفن في لهفة وشوق حيث كانت العلاقات مع بعض تلك المناطق كمرباط مثلا شديدة العمق، إذ لا زالت وشائج التواصل مستمرة بينهم.

علاوة على ما سبق فإن من أهم الأدوار المسكوت عنها والتي قام بها الصوريون هو نقل الآف العوائل العمانية وطلبة العلم إلى شرق أفريقيا لتعزيز التواجد العماني هناك، مع مشاركتهم أياهم في الوجود والاستيطان العربي في تلك الأنحاء، ولا أدل على ذلك من أن جل حكام جزر القمر وبعض النواحي الأفريقية من أهل صور ،ويحملون مسمى القبائل الصورية ولهم حارات مشابهة للحارات الصورية من حيث الاسم.

جاء ظهور النفط في منطقة الخليج مؤذنا بأفول عصر الملاحة العربية التقليدية حيث ظهرت فرص العمل في البحرين والكويت بكثرة، تلتها مناطق أخرى من دول الخليج العربي مما جعل الشباب يسارعون في البحث عن فرص للعمل هناك، تاركين تلك السفن فارغة من ملاحيها حيث تم بيع العديد منها بينما ظل بعضها واقفا دون صيانة في خور صور، حتى أثرت عليه عوامل الطقس فأضحى الخور مقبرة كبيرة للبقية الباقية من ذلك الأسطول المجيد، والذي تم التخلص مما تبقى منها بفعل فاعل، ولم يتبق لأهل المدينة سوى اجترار ذكرياتهم وكثير من الحكايا عن ذلك الزمن، وسفينة واحدة تم استردادها ما زالت شامخة مقابلة للخور تستذكر تاريخا سطر بسواعد رجال قل أن ينجب الزمن مثلهم.

بقلم : خالد علي المخيني رئيس تحرير مجلة بحرنا
http://bahrona.com/2017/08/541.html
Exit mobile version