حوت تدوينات شخصية ووصفا لمسارات بحرية: قراءة في دفتر ربّان عماني

مسقط-أثير
إعداد: د. محمد بن حمد العريمي

كان ربابنة السفن يحتفظون بدفاتر وسجلات يدونون فيها أبرز الأحداث التي تصادفهم منذ خروج السفينة من الميناء في بداية الرحلة، وانتهاءً بعودتهم إليه في نهايتها، مرورًا بالمحطات والموانئ التي يتوقفون بها، وهذا السجل يعرف بالروزنامة البحرية، وأحيانًا تكون عبارة عن دفاتر أو سجلات يتم فيها تدوين الملاحظات والبيانات التجارية فقط دون الإشارة إلى اليوميات الأخرى.

وكان هذا السجل يتضمن العديد من المعلومات المهمة المتعلقة بالرحلات المختلفة التي تقوم بها السفينة، بل هو سجل حي للأحداث اليومية، يشتمل على كل ما يحدث على ظهرها أو حولها، كأنواع البضائع والسلع المصدّرة والمستوردة، والتعاملات التجارية مع التجار الآخرين، وحركة الرياح، وخطوط سير الرحلات، والتحديات المختلفة من عواصف وأنواء مناخية، أو موت أو إصابة أحد طاقم السفينة أو الركاب، بل قد يعد مرجعا قانونيا يعود إليه (سنّة البحر) عند الحاجة إلى الفصل في بعض القضايا والخلافات التي تحدث بين طاقم السفينة.

كما تعد تلك الدفاتر مادة علمية دسمة للباحثين؛ لما تتضمنه من مصطلحات عديدة، ولما تحتويه من معلومات يمكن أن تكشف لنا عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية للحقب الزمنية التي ظهرت فيها.

“أثير” تقدم في هذا التقرير قراءة في دفتر أحد الربابنة العمانيين، وهو جزء من مجموعة من الدفاتر التي حواها أرشيف هذا الربّان، وقد أخذناه بمثابة نموذج كي نقترب من طبيعة التعاملات التجارية لأصحاب السفن العمانية خلال فترة ما قبل النهضة، ونتعرف على أبرز المعلومات المتعلقة بالنشاط الملاحي البحري العماني قديمًا.

صاحب الدفتر

هو النوخذة مسلم بن صالح العلوي، ولد في العيجة بولاية صور بين عامي 1910-1915، كانت بدايته في ركوب البحر وتعلّم فنون قيادة السفن الشراعية في سفن أسرة النوخذة الشيخ محمد بن خاطر العلوي، وأخذ الدرك، وهو مصطلح بحري يعني القدرة على قيادة السفن الشراعية، وهو في سن الثامنة عشرة تقريبًا.

قاد النوخذة مسلم بن صالح العلوي عددًا من السفن الشراعية المشهورة في مدينة صور من بينها: (بنانه) و(معقولة) ملك الشيخ محمد بن خاطر العلوي، و(الشورانة) لأسرة أولاد جمعة بن سليم القعدوي العلوي وهي من الأسر المعروفة في مجال الملاحة البحرية، وامتلكت العديد من السفن، و(الوانجا) لأسرة السرّاي العلوي، وهي كذلك من الأسر ذات الصيت المعروف في مجال الملاحة البحرية وتوزع نشاطهم ما بين صور ومرباط، وهم أصحاب البيت المشهور والمعروف في حيّ العيجة بصور، وكان البوم (المنتصر) من أواخر السفن التي عمل عليها قبل تركه للأسفار البحرية.

سافر النوخذة مسلم بن صالح العلوي إلى العديد من الموانئ كالبصرة، وموانئ الخليج، واليمن، وبرّ الصومال، والساحل الغربي للهند، وموانئ شرق أفريقيا، كما برع على غرار العديد من النواخذة في مجال تفصيل الأشرعة، وهي مهارة تحتاج إلى قدرات فنيّة على مستوى عالِ.

ظل النوخذة مسلّم بن صالح العلوي يعمل ربّانا أو نوخذة في هذه السفن وغيرها لحوالي أربعين سنة متواصلة، حتى أواخر الستينات الميلادية عندما أصاب الركود نشاط الملاحة البحرية في عمان بشكلٍ عام وولاية صور بشكلٍ خاص لأسباب اقتصادية عديدة.

مع بداية النهضة المباركة في عام 1970 تحوّل النوخذة مسلم العلوي لممارسة التجارة وتحديدًا في تجارة الأخشاب التي كان يستوردها من الهند، ولعل لنشاطه السابق كربّان بحري دور في هذا التحوّل، حيث إن النواخذة العمانيين كانت لديهم دراية بموانئ الهند، وكانت الأخشاب من ضمن الواردات التي يتم جلبها من بعض مناطق الهند نتيجة لاستخدامها في صناعة السفن، وبالتالي توطدت العلاقة بين الطرفين؛ الأمر الذي سهّل من مهمّة النوخذة مسلم العلوي في ممارسة نشاطه الجديد، حيث ارتبط في علاقة تجارية مع عدد من المورّدين الهنود لاستيراد الأخشاب، بالإضافة إلى عدد من اللوازم الأخرى التي تتطلبها صناعة السفن كالحبال والباورات وغيرها.

استمر التاجر مسلم بن صالح العلوي في ممارسة نشاطه حتى منتصف التسعينات الميلادية من القرن العشرين عندما توقف استيراد الخشب من الهند، وكانت آخر شحنة تم تسلّمها عام 1995، أي بعد وفاته بفترة بسيطة حيث كان قد توفي في شهر نوفمبر 1994، وذهب ابنه أحمد بن مسلّم العلوي لتسلّمها.

وصف الدفتر:

يعد هذا الدفتر جزءًا من مجموعة دفاتر يحويها أرشيف النوخذة مسلّم بن صالح العلوي، ويحتفظ بها ابنه الأستاذ أحمد بن مسلم العلوي الذي يعد من المهتمين بالتراث البحري ويمتلك ورشة لصناعة نماذج السفن الخشبية، ومعرضًا لعرض تلك النماذج، بالإضافة إلى مشاركاته في المعارض المحلية والخارجية.

يعد الدفتر الذي دونت فيه المعلومات والبيانات قيد الدراسة، من الدفاتر القديمة التي كانت تجلب من الهند فترة الستينات الميلادية وما قبلها، وكانت شائعة الاستخدام عند تجار الخليج ونواخذة البحر، وهي ذات غلاف كرتوني مقوّى، وأوراق طوليّة.

أما عن الفترة الزمنية لتدوين المعلومات التي حواها السجل أو الدفتر فهي تتضمن الفترة الزمنية ما بين بداية الأربعينات الميلادية وحتى عام 1969 وهي السنة التي شهدت توقف النوخذة مسلّم العلوي عن نشاطه الملاحي المباشر كربّان وتوجه بعدها للعمل التجاري من خلال تجارة الأخشاب وما يتعلق بها.

أهمية الدفتر:

تكمن أهمية الدفتر في أنه يقدّم نبذة عن نوعية النشاط التجاري الذي كانت تمارسه السفن الشراعية العمانية والخليجية خلال الفترة الماضية، من حيث نوعية التعاملات التجارية بين أصحاب السفن والتجار في الموانئ، والتعامل المالي بين صاحب السفينة وطاقم السفينة من بحّارة ونجّارين ومبتدئين، وكيفية توزيع الأجر، وأبرز السلع التي كانت تتميز بها الموانئ المختلفة.

ويمكن أن نعدّد بعض الجوانب المهمة التي ارتبطت بهذا الدفتر. ومن بينها:

المعلومات التي حواها الدفتر

تنوعت المعلومات والبيانات التي حواها هذا الدفتر، وهي كثيرة، وسنحاول ذكر نماذج مما تضمنته تلك البيانات، والتي من بينها:

كان طاقم السفينة يتكون من مجموعة من العاملين ينقسمون إلى فئات حسب النشاط الذي يقومون به، وهم: البحّارة، المجدّمي (رئيس البحارة)، الوستاد (نجار السفينة)، السكوني، الطبّاخ، الوليدات وهم الصغار الذين يلحقون بالسفينة من أجل التعلم.

وكانت هناك اتفاقات ضمنية بين صاحب السفينة وطاقمها تتعلق بكيفية توزيع الأجور المتفق عليها، حيث يأخذ أفراد الطاقم جزءًا من الأجر قبل إقلاع السفينة في بداية الموسم، وبقية الأجر يتم توزيعه في الموانئ المختلفة بحسب نوعية الاتفاق، كما أن الأجور تختلف بحسب نوع العمل، والخبرة التي يتمتع بها العامل.

وقد حوى الدفتر أو السجل بيانات عديدة تتعلق بآلية توزيع جزء من الأجور على طاقم السفينة في الموانئ المختلفة كالبصرة، وكراتشي، والبحرين، وممباسا.

حرص صاحب الدفتر على تسجيل المعاملات التجارية التي كانت السفينة تقوم بها أثناء توقفها في الموانئ المختلفة، ونوعية البضائع المباعة أو المشتراة بحسب النشاط التجاري لكل ميناء.

ومن بين الموانئ التي ذكرت في الدفتر: الباطنة، السويح، الأشخرة، مصيرة، مرباط، البحرين، البصرة، عبادان، بومبي، منقرور، الصومال، زنجبار، ممباسا، ونلاحظ من السجلات أن هناك بضائع وسلعا ارتبطت بموانئ معينة بحسب شهرتها، كالتمر بأنواعه في البصرة، والخشب والزيوت في موانئ شرق أفريقيا، وأدوات صناعة السفن والمواد الغذائية في موانئ الهند، وهكذا.

كان بعض أصحاب السفن وبالذات تلك المتجهة إلى موانئ الهند، تمر في طريقها على بعض البنادر العمانية المطلة على ساحل بحر العرب حيث تقوم بشراء بعض المنتجات وبالأخص الأسماك المجففة والمملّحة، ومن بينها (اللخم) وهو لحم سمك القرش، حيث يتم بيعه في بعض موانئ الهند واليمن.

وكان للنوخذة مسلّم بن صالح العلوي تعامل مع عدد من الصيادين وأصحاب السفن الصغيرة ممّن يتاجرون في الأسماك المجففة والمملحة، حيث احتوى الدفتر على العديد من الأوراق الخاصة بتلك التعاملات مع مزوّدين من السويح والأشخرة ومصيرة ومحوت، وهي بنادر تقع على ساحل بحر العرب.

حوى الدفتر في بعض أوراقه وصفا لمسار بعض الرحلات، ومن بينها النموذج الآتي الذي يصف مسار رحلة قام بها النوخذة مسلّم بن صالح على متن إحدى السفن الشراعية في عام 1389 هـ، في طريقه إلى زنجبار مرورًا بموانئ الصومال.

حوى الدفتر بعض التدوينات الشخصية كعادة التجار والنواخذة الذين كانوا يدونون أحيانًا بعض الأمور الشخصية أو الأحداث الطارئة كولادة مولود، أو وفاة شخص قريب أو معروف، أو حدث سياسي أو اجتماعي مهم.

وفي هذا الدفتر نطالع بعض التدوينات الشخصية ومن بينها تدوينة عن حمولة إحدى السفن الشراعية ” فتح الخير”، وبعض الأبيات الشعرية المرتبطة بمناسبة اجتماعية كان لها صدى واسع في تلك الفترة.

المراجع

Exit mobile version