———————————————
حمود بن سالم السيابي
———————————————
إنها “سكَّة البوش” وأبواب الخانات على حالها بطلاء حُداة القوافل
والسقف بتعشيقات الزجاج الفائض عن حاجة قمرات السفن.
ورائحة المكان بطشَّة المطر على خشب الدرايش ، وببريق فضة الخناجر الصورية وبفحيح حبال دلاء الطويان ولسعة مرقة الغداء في بيوت الطين ، وحنَّاء الهوادج المنثالة نحو خور البطح لأجل شومة من “بحر حدْرا” إلى بر القرنفل وبوابة الهند.
ورغم وجود سكك أخرى في تضاريس الجغرافيا الرومانسية ولها نفس الممرات المسقوفة كسكَّة “بريكستون” المزججة ببقايا أيقونات العصر القوطي لتتماشى ومهد المشاهد الثقافية في جنوب غرب لندن.
وكتلك التعشيقات الملونة في أقواس مجمع “هانس فيرتل” في درّة الشمال الألماني لتتماشى وسقف هامبورج “هوبانوف” و”الدامتور”.
وشفافية زجاج سكة “كوفرشتن جاليري” في “كاسل” بولاية “هسن” الألمانية
وسكة “فليترنلي” للكتب والموسيقى في “كولونا” وسط روما والمبنية على أنقاض “السيرابييوم” الروماني القديم.
وكذلك الممر المسقوف تحت سناطوين “نوي شتاد” في هامبورج ليضيف على خانات بيع الأيقونات والمجوهرات والساعات النادرة البذخ والفخامة.
ويتكثف الإبداع الفارسي في المزاوجة بين السيراميك والزحاج في بازار إيران الكبير في طهران.
وتتباهى عاصمة البلجيك ب “رويال جاليري سانت هوبرت” كأجمل سكة تجارية تحنو بسقفها الممرد بالأيقونات حنوَّ الأم الرؤوم في تلطفها بالماشين.
وينسحب الوضع على سكة “كيرك” القادمة من العصور الوسطى في أمستردام.
ويتكرر الممر المسقوف في سوق الذهب في سكة الخيل بدبي وغير ذلك من سكك الهند والسند وممرات الأسواق المسقوفة في الشرق والغرب.
ويبقى لسكَّة البوش في العفية تميزها ، فهي كإسمها قنطرة معلقة بين الأخفاف والمجاديف ، وعند نهاياتها تبرك “الملولحات الأرسان” لتجترَّ تعب مسيرها الطويل المثقل بالأحمال.
وسكة البوش في العفية هي استفتاحها لأولى الموجات المالحة وشرفتها الأجمل على العالم الأزرق.
وبها تسجل حورية البحر الحضور في تلويحة النواخذة قدوما ومغادرة.
والسَّاحب الخطوات تحت الممر المسقوف لخانات سكة البوش عليه أن يجر مع كل خطوة مائة عام إلى الوراء.
وأن يستدعي السابح في رمل المكان خطوات الماشين بأثر رجعي ليتيح للنواخذة الخروج من كتاب “أسياد البحار” لشيخنا حمود بن حمد بن جويد الغيلاني فتحتويهم تبريزات السوق ومقاهيه من أول خان في سكة البوش ولآخر مبرك للناقة عند خور البطح.
وعلى الخائض لدهشة سكة البوش أن يتفرَّس في السحنات التي شكلتها شمس العفيّة وملح بحرها ، لعلَّ مدير الفرضة سالم بن راشد بين تلك السحنات فيأخذه في “كلمة رأس” عن الصواري الآيبة بعد غياب في مجاهل المواسم.
وعن “غنجة” تواطأتْ مع الريح لتسبق صويحباتها.
وعن “البدن” الذي نشر أجنحته البيضاء من بوابة الهند إلى بوابة رأس الميل فبلل المطر ذوائب الشراع فجففه دفء الشوق.
وعن مواسم هبوب الرياح التي تتحكم في خرائط الوجهات -سرعة وإبطاء- من مرافئ التحميل إلى مراسي التفريغ.
وعن خرائط ضربات بحر عمان وبر السند.
وعن “البُوم” الذي قيل أنه “طبع” بعد مغالبة مستميتة مع غدر البحر الأحمر.
و”السمبوك” الذي قاوم غضبة بحر العرب فوصل بأمان.
وعمَّا قذفه اليَمُّ بالساحل لتظل العفية أجمل عهدة لأسياد البحار.
وعلى الماشي في سكة البوش أن يستدعي زمن “الطواشة” بسجله الطويل في مكابدة كتم الأنفاس منذ “الرَّكْبَة” إلى “القَفَال”.
وأن يتلصص على “دسِّيِّات” الطواشة وهم يقدِّرون أوزان وألوان وأنواع وأشكال الدانات التي ستغادر عتمة المحَّار لتحيل العتيم في الأعناق والمعاصم والأصابع إلى نهار.
وعلى العابر لسكة البوش أن يفسح لأعمدة الضوء المتنزلة من تعشيقات زجاج السقف ليرى كيف ينساب اليمانيون بأكياس “الورس” كما في “النوستالجيا الصورية” للشاعرة مريم الحتروشية.
وأن يدع الزغاريد تكتب زفة تنزيل “المناديس بو نيوم” من المحامل إلى الأفراح لتفتش عن “منزلة” تتوافق والأنجم.
وأن يبحث في السوق عن الدشاديش الصورية و”القبعة” و”شادر الطرح” ومسابيح الكهرب وقناديل “البتروماكس” والبريموس السويدية وسحَّارات “الواتر بروف” وشربات “روح أفزا” وعطورات “راماج” و”ريفدور” ومناظر بو طاووستين.
نجلس على أريكة وسط سكة البوش لنتنفس رطوبة البحر ونقلب في ذاكرة سكة البوش التي تتحدث عن سبعمائة متر كإجمالي طول للسكة التاريخية وثلاثة أمتار لعرضها.
وأنها تخترق عدة “حواير” في هذا الجزء من صور القديمة.
وأن بالسكة أكثر من ٣٠٠ خان تخلقت من سالف العصر بدفاترها الأوسع من الأطلس وبمراسيها الأطول من الدول العريقة بالموانئ.
وأن بخاخيرها ازدحمت بتمرها وليمونها وسمنها و”ساجها” و”سوتْليها” ولخمها المجفف وملحها العريشي المقتطع من المناجم المتكلسة ، إلى جانب ما يجلب لها من حرير وصوف وبريسم وديباج وشيت وفصوص وخرز وأمشاط عاج.
وأن بسكَّة البوش خمس بوابات كبيرة مفتوحة على “الحواير” وعلى رمل البحر ليسهل الوصول إليها من جميع الجهات.
وأن الهوادج مهمها ارتفعت فلن
تطال السقف المزجج أثناء سيرها تحت ديمة أضوائه فهو بارتفاع أربعة أمتار.
وأنها ليست مجرد سكة تغزل ضفافها الدكاكين العتيقة بل بورصة بيع وشراء ومنصة تبادل مع أسواق العالم.
نمشي ومحمد ومازن في سكة البوش عشية بدء العام الدراسي الجديد ومشتريات العابرين للسكة لا تبتعد هذا اليوم عن شراء الكميم المنجمة والمراييل العنابية والزرقاء والحقائب والأدوات المدرسية.
لقد غاب الذين كانوا هنا يبحثون عن “أفياف” لنقل الماء العذب للسفن ليحضر مكانهم أولئك الذين يبحثون عن المطارات البلاستيكية للشرب بين حصص العلوم والجغرافيا.
وتفرق الذين يتحزمون ب”النيبي” لحفظ كروة السفر ليحضر حملة “الكريدت كاردز”.
وغاب الذين يحملون في هبَّانهم للشومات “تعشية” الدلال القريشيات ليحضر ندامى قهوة الأكواب الورقية.
نمشي وقد تحشرجت حناجر حداة القوافل بأمواس الغياب فما عادوا يجلبون لسكة البوش تمور سفوح قهوان ولا لخم الأشخرة ولا ملح كهوف قرن العلم.
ولا يتردد اليمانيون ب”ورسهم” الذي يصبغ ثياب العرب ووجوه الصبايا.
ونحاول أن ننعش السكة فنسكب في أسماعها إلياذة العرفان لفيصل الفارسي :
“وأسولف للمدى عن
سكة البوش القديمة …..”
“ترانيم البياض المعتلي الزرقة…”
فترتد الإلياذة الفارسية أمواس أحزان.
نمشي ونمشي ونمشي وعند الخطوة الفائضة عن الممر المسقوف للسكة نترع ثمالة الكأس الأخيرة فنتلهى بحصاد الهاتف من الصور بين سكة البوش إلى سكة “بريكستون” إلى مجمع “هانس فيرتل” إلى كوفرشتن جاليري إلى “كولونا روما” إلى “كيرك” و “رويال جاليري سانت هوبرت” إلى “جراند بازار” وانتهاء بسوق الذهب في “سكة الخيل” بدبي لنلحظ أن السكك توافقت في الحنو على العابرين.
وتشابهت في التوجُّع على غياب المبيع والباعة والمشترين.
فنترع ثمالة أحزان الشاعر المعتزل محمد بن علي بهوان:
حزني عليهم حزن مقتول جساس
من لي بمن يا حيف شد الرحايل
لا حول ثم لاحول من شدة الباس
عازت تصاريف الحيل والوسايل
من بعدهم يا دار الوقت بك ماس
وحصنك تصدع وانكسر صار مايل
لاباس من دهر عثر فيك لاباس
حكم الدهر ولدهر ما اقول عايل
أصل و فصل يا صور للعز نبراس
تشهد لك الأيام درع القبايل
يا دار من بالوصف يوفيك نوماس
يا نور وجه ما توفي المثايل
أعجز أقول ويعجز يشيل قرطاس
حب يشيله نابض العرق هايل
————————
مسقط في ٣١ أغسطس٢٠٢٣م.