حمود بن سالم السيابي
——————————————
إنها “العفيَّة” للمرة المئة وأكثر.
ولكنها الأولى التي أركب فيها بحر صور فتتهادى بي وبمحمد ومازن سفينة سئمت الماء المالح وشقاوات الموج لولا من يسكب في سمعها أفاويق ناصر البلال في حورية البحر فتتلمظ السفينة من جديد ملح الماء وتتحنّك به حدّ جنون العودة.
ولولا من ”يدوزن” ذاكرتها بتقاسيم سالم بن راشد الصوري فتحنّ مجددا لمركب الهند “أبو دجلين”.
ولولا من يحرضها بتساؤلات سالم علي سعيد في أوبريت “لمن السفائن” فتتدافع الإجابات في حشرجة النَّهَّام
ولولا صفقة البحَّارة في ترنيمة “زمان البحر يا اللي دايم ما ننساه” لعوض حمد حليس فتنتفض أشرعة الإبحار وتتعالى زغاريد الوصول.
وعلى شفا موجة من جسر العيجة مدَّ القارب يداً طويلة لتنتزعنا من شاطئ الرمل وفتيت المحَّار لنتوزع على حواف القارب فنلحق بالسفينة المنتظرة وحيدة في الغُبَّة.
كانت شمس العصر رفيقتنا لتجدِّف مع بحارة سفينتنا وتندفع بنا نحو الجسر فينحني الدَّقَل إجلالا لهمزة الوصل المعلقة بين ضفتي خور البطح.
ثم تحاذي السفينة بيت البطح فينحني الكل ولاءً للسَّارية على سطحه وإن لم يُنْشَر البيرق.
ونقترب من منارة “رأس الميل” لتتراسل السفينة بأسماء من مخروا العباب فنلوِّح بأكفنا لهذا “الفنار” الذي انتصب كرمح أزرق على مفرق الدهر.
تحركت السفينة على ذات المسارات المبحرة من صور باتجاه البصرة وشطآن السند والهند وبر الزنج ولكل الوجهات المفتوحة على المحيطات.
ولمجرد أن تأخذ السفينة استدارتها ستفصح عن جهة الإبحار المواربة في نوايا “السَّكُّوني” الواقف وراء الدّفَّة.
تناوبتُ ونجلاي ونوخذة السفينة مهمة “الدوماني” أو “السكُّوني” في التحكم بدفة السفينة.
وكنا ندير السفينة صوب اليمين فيسطع الشرق وينهض الإرث الأزرق ومعه رأس الحد فمصيرة فسمهرم فالبليد فريسوت فمرباط ثم عدن و “مكتشوه” فأنغوجا فبيمبا فماليندي.
ونحرك دفة “الدوماني” نحو اليسار فتحضر موانئ الغرب ومعها قلهات فقريات فمسقط فمطرح فصحار فمضيق هرمز.
وإذا ما دخلنا المضيق فسينتهي بنا الإبحار عند البصرة وشط العرب.
وإن لم ندخل وواصلنا الإبحار فأمامنا جواذر وكراتشي فممبي وسرنديب فخط الحرير إلى كانتون.
ما زلنا في قمرة النوخذة و”السَّكُّوني” يتلاطم بالماء وعلى زوايا المكان التاريخ المضرج بالملح ودفاتر النواخذة وأشواق المرافئ وجلبة الأسواق وصمت “سحاحير الواتربروف” المكتنزة بالصوغات.
لقد تسارع الوقت ونحن في غبَّة البحر والعفية توشك أن تمسِّد أهداب المساء والمآذن ستنطلق في وقت واحد بالتكبير.
لكننا لن نفقد مسارات العودة ، ولن نتوه وإن شرب البحر زرقته والتحف ببردة سهرته السوداء ، فلدينا “الآلة السدسية” وهي دليلنا في الاتجاهات بين نجمة ونجمة ، وستكون العفية أكبر النجمات قبل وبعد الوصول.
ولدينا “الديرة” التي ستؤشر إلى الجهات الأربع فنعرف أين نولي وجوهنا شطر القبلة.
لكن اللحظات الجميلة موعودة بافتراس جوع الوقت وجنونه لذلك انتهى إبحارنا رغم البحر المفتوح على اشتهاء الأمنيات.
ومن موجة كالحلم لأخرى شقية كالطفولة تهادت سفينتنا على خط العودة وبدأت “العنَّافة” تشق الماء.
وتتابعت ذات المفردات من “فنار رأس الميل” إلى أعمدة الهمزة المعلقة بين ضفتي خور البطح إلى المآذن السابحة في الأضواء في صور والعيجة.
ألقينا “الباورة” أخيرا في النقطة المتفق عليها لتتوقف أوصال السفينة عن الحركة ويدب في أوصالها الكسل والتثاؤب والضجر والسأم من جديد.
مدَّ قارب العودة يديه من جديد لينتزعنا الواحد تلو الآخر من القصر العائم إلى حلم اليقظة الذي يتفسر بقارب بائس.
وكانت صور قد أشعلتْ قناديلها لسمر صيفي طويل تجتر فيه حكاياتها المالحة وتراود “سحاحيرها الواتربروف” لتستذكر “الشومات” الخوالي ومرارة الانتظار ولذة الوصول.
توقفنا عند “كرك خالوه” فأسرع النادل بصينية من “القروص” بدبس النخيل وأكواب الكرك والقهوة.
مخرت السيارة الليل وما زالت أراجيح الماء لم تتوقف في رؤوسنا ، وكأننا ما زلنا على ظهر السفينة رغم أننا في السيارة حيث لا شراع ولا دقل ولا “دفة ولا عانفة ولا تفرْ”.
بحثنا عن “زمان البحر يا اللي دايم ما ننساه” في ذاكرة الهاتف فتركنا عوض حمد حليس يدوزن ويعزف ويقسم ويغني :
“زمان البحر يا اللي دايم ما ننساه”.
لنردد وراءه :
“زين زين يا بحر”.
ليت السفينة ما تزال تبحر
ليت أراجيح الماء ما تزال في الرؤوس.
——————————-
مسقط في ٢٧ أغسطس ٢٠٢٣م