الدكتورة سعيدة بنت خاطر: قصيدة النثر الجيدة فرضت نفسها حتى لو لم تنل ذلك الاعتراف
حاورها: ناصر أبو عون– جريدة الشبيبة العمانية – ملحق آفاق الثقافي : الدكتورة سعيدة بنت خاطر اسم معروف في الساحة الثقافية العربية ونتاجها الشعري والنقدي خير من يعرف بها وهو ما جعلها واحدة من العلامات الثقافية الواضحة في هذا الحوار لم نتطرق الى تجربتها فقط اكتفينا بطرح تساؤلاتنا حول الراهن الشعري والنقدي العربي .
* يشنّ بعض النقاد هجومًا حادًّا على الدول العربية التي تقدم جوائز فقط للشعر العمودي ؛ مما يؤدي إلى حتمية إقصاء كل التيارات الجديدة لمصالح ورغبات سياسية معينة، على حدِّ زعمه. هل تشعرين أن هذا يتحقق عمليا على الساحة الخليجية ؟ ولا يتحقق على أي ساحة عربية أخرى …
أولا :مشكلة بعض النقاد العرب أن كثيرا منهم يريدون أن يصلوا للسلطة بأي طريقة كانت ، سواء أكان عن طريق التسلق على ظهور المبدعين أو السيطرة على المراكز الثقافية ومساندة أهوائهم الخاصة ، وقد أسهموا بتصنيف الإبداع إلى تصنيفات متضاربة متنازعة مما أدى إلى انتشار الشللية كآفة كبيرة من آفات النقد العربي وصدَّروا هذه الأزمة للمبدعين فهناك حرب ضروس بين شعراء قصيدة النثر وشعراء الشعر الموزون وحرب أخرى بين الشعر العامي الشعبي والشعر الفصيح مما أدى إلى تفتيت دور المبدع وإلهائه بتوافه الأمور بدلا من الاشتغال على تجربته .. وإذا كانت هذه الشكوى تدور حول برامج تلفزيونية معينة مثل شاعر المليون أو شاعر العرب أو غيرها من التسميات فاعتقد أنها مقولة حق يراد بها باطل …. أولا .. لأن هذه البرامج ظهرت ردا على سطوة أنصار قصيدة النثر وسيطرتهم على مراكز الثقافة في أنحاء الوطن العربي المختلفة ، ضمن عمل مخطط له للقضاء على غيرهم من تيارات الشعر وفي شللية مقيتة تم تجمعهم في المهرجانات الثقافية ومنع غيرهم من المشاركة وتم توزيعهم على أهم المجلات الإبداعية حرصا منهم لإبعاد أي تيار شعري مخالف … ثانيا: عندما أعجبت اللعبة المسؤولين عن القنوات الفضائية ، وهم في الأصل تجار يهمهم جمع أكبر قدر ممكن من ملايين الأصوات من المتصلين والتي تترجم إلى لغة الأرقام لملايين الريالات عملوا تلك المسابقات .. فما يهم المسؤول العربي التاجر هو جمع المال وآخر الحسابات يأتي الاهتمام بالثقافة أو الشعر الجيد أو السيء العمودي أو النثري ، وتأكد أنه لو كان لقصيدة النثر جمهور عريض لجروا خلف النثر دون مراعاة لأي حسابات ثقافية تذكر ، ومن يشتكي ويروج كل هذه الإدعاءات وجد أن الأمر لا يصب في مصالحه ، فللأسف أصبح الجميع يجري خلف نفسي ومصالحي ومن بعدي الطوفان .
* نحن مع القائلين بأن قصيدة النثر" امتدادٌ طبيعيٌّ لتطور الشعر، خاصةً بعد شعر السبعينيات؛ الذي انحرف به أصحابه عن الشعر العمودي، وأنهم أوجدوا حلقةً جديدةً من تطور الشعر العربي، ولكن هناك شبه إجماع ( قراء وشعراء ) على عدم الاعتراف بقصيدة النثر كحلقة شرعية من حلقات تطور الشعر العربي ؟!
– هذا غير صحيح قصيدة النثر الجيدة فرضت نفسها حتى لو لم تنل ذلك الاعتراف ، لكن المبالغة في تقليد الصرعات والابتعاد عن لغة الشعر وموسيقاه الداخلية أو الخارجية هي التي نفرت الناس منها فالشعر وتده الأساسي الموسيقى واللغة الشديدة التوتر والحساسية والتكثيف فلما انمحت ملامح الشعر أصبح النتاج لغة سردية لا فرق بينه وبين القصة القصيرة أو الخاطرة أو لغة المقال وأحيانا لغة الصحافة العادية ، لذا كان من البديهي أن يذهب الناس وينصرفوا عن الشعر ويتقلص جمهوره ، إن المبالغة في الخروج على كل الثوابت ، وإلغاء الحدود بين كل الأجناس حتى الشعر الذي له خصوصيته الدقيقة ، هو ما جعل معظم كتاب قصيدة النثر في وضع حرج ، فالإدعاء لا يقدم فنا خالدا ، مما صرف الناس عن الاعتراف بما يكتبونه .لكن لا شك أنه توجد قصيدة نثر جميلة بل وعلى درجة عالية من الشاعرية .
*الشعر المعاصر في نماذجه الحداثية لا يزال يواجه اليوم إشكاليات كثيرة معظمها ناجم عن عدم نجاحه في الوصول إلى وجدان القارئ. وتتصدر قصيدة النثر هذا المشهد المؤلم.. هل تعتقدين أن تلك القصيدة حتمية ثقافية أم خيار جمالي؟!".
– نعم هي حتمية ثقافية وفي الوقت نفسه هي خيار جمالي ، هي حتمية من حيث كونها إضافة جيدة ومتميزة في بستان الشعر العربي ، وخاصة بعد أن تخلصت من كثير من طيشها ورعونتها ، فحتى روادها أدركوا أن الشعر بلا إيقاع هو خارج إطار الشعر ، وأنه على كل شاعر أن يخترع إيقاعه الخاص وأن المبالغة في الغموض هو تعقيد ضد الجمال الفني الشفيف ، وأنا أؤيد هذا فأحيانا يلجأ الشاعر إلى التخلص من ضجيج الإيقاعات الخليلية ومن القوافي الشديدة الرنين لأنه يعبر عن أعماق دواخله الهادئة ولا يريد جرسا شديدا أو صخبا جماهيريا فلا يجد سوى النثر كنص مناسب يعبر عن معاناته الذاتية . لكن قصيدة النثر ليست بديلا عن القصيدة العمودية أو التفعيلية كما يريد أنصارها أن يفرضوها ، لأنها فرع وليست أصلا ولا يجوز للفرع بأية حال من الأحوال أن يقوم مقام الأصل أو يزيحه عن الأهمية ، وهذا ما جعل كتابها في موقف المحارب الخشن للدفاع عنها ، لشعورهم المتأصل بأنها مخلوق غير تام الهيئة ولا انتماء له ، إذ أن قاعدة الهدم والإزاحة التي يتبناها أصحاب قصيدة النثر يجعلها إضافة بلا جذور ولا أسس تنبثق منها .
* لا نجد على الساحة الشعرية العمانية حضوراً قوياً لقصيدة النثر مع أنها موجودة غير أن حض
ورها لم يمكنها حتى الآن من مضاهاة القصيدة التقليدية .. ( جمهورا وأمسيات ومهرجانات ) أنا اعتقد أن الإشكالية تكمن في الشاعر الذي يميل إلى التحلل من القيود الشعرية من دون أدنى معرفة تمكنّه من وعي قضية الحداثة المعاصرة فماذا تعتقدين ؟
– اتفق معك تماما الحداثة في نظر كتابنا التحلل من كل قيد واتباع الآخر من الكتاب العرب الذين حازوا شهرة الريادة في كتابة قصيدة النثر ، دون إطلاع على ماهية الحداثة وما هي الظروف التاريخية والخلفية التي انبثقت منها فإذا كان لدى رواد قصيدة النثر ذلك الوعي والثقافة ، وتلك الموهبة الإبداعية الكبيرة التي أهلتهم لكتابة مميزة ، فإن المقلدين من الشباب اعتقدوا أن السهولة والخروج على كل قيد والتعمية والألغاز والغموض هو الحداثة .
* نعتقد أن جمهرة شعراء قصيدة النثر في مرحلتها الأخيرة أوغلوا في التجريب؛ بحثا عن الخصوصية، لكن المؤسف أن الإيغال تحوَّل إلى انفلات، وهو ما يقود إلى العشوائية، مما أدخلها في مرحلة جديدة، ومن ثم بلوغها شيخوختها وهي في ريعان شبابها.هل تؤيدين هذا الرأي ؟ – نعم أؤيده .. لأن قصيدة النثر أصلا انبثقت من التجريب بحثا عن الخصوصية ، فلما كثرت التجارب وتنوعت ، كان من الطبيعي أن توصل تلك الشهوة من البعض منهم إلى العشوائية ، لكن في الوقت نفسه بلغت لدى البعض أوج تألقها ونضجها فهناك قصيدة عدنان صائغ ، و حلمي سالم ، و شعبان يوسف وسيف الرحبي ، وعبد الرزاق الربيعي ، وياسر الزيات ، وكثير غيرهم … وهي قصيدة أضافت الكثير لجماليات الشعر ، ومن الملاحظ أن شاعر قصيدة النثر المبدع الذي أضاف للشعر وارتفى به ، هو في الأصل شاعر مثقف واسع الثقافة يكتب العمودي والتفعيلي ثم كتب النثر هنا تتبلور رهافة الشعر وتتشكل اللغة الشعرية في قصيدة النثر أما من شطح في تجريبه بدون خلفية علمية أو ثقافية فقد أدخل قصيدة النثر في فخ العشوائية .
· يهاجم شعراء النثر النقد المتزمت الذي لا يريد أن يؤسس حواراً جاداً حول قضية الحداثة كما تطرحها قصيدة النثر .. هل أنت على خصومة مع النقد والنقاد ؟
– أنا أصلا شاعرة وناقدة… ولا خصومة بيني وبين النقد الهادف خصومتي مع النقد الانطباعي والنقد الشللي والنقد الزائف لغاية في نفس قائله ، النقد علم له خصوصيته وحساسيته وذلك لارتباطه بالفن والإبداع ، والنقد الجيد إبداع في حد ذاته وضرورة متلازمة مع الإبداع تؤدي إلى تطويره والنهوض به ، أما معظم شعراء النثر فيريدون نقادا يفصلونهم على مقاسهم ومزاجهم أي نقاد لا يعترفون بأي شعر خلاف ما يكتبه شعراء قصيدة النثر . وهذا في حد ذاته خروج على النقد الذي يجب أن يتصف بالحيادية والموضوعية والأمانة العلمية والدقة .
*في ديوان قصائدك لاحظنا تراجعت الصورة البلاغية القديمة عن مركز الاهتمام الشعري وغدا دورها هامشياَ ودعوة إلى تأسيس خطاب شعري ممعن في التعقيد ،هل قصيدتك أرادت ،أو أنها استحالت صيغة من صيغ التمرد الشعري على كل ما هو ثابت ؟
– يمرّ الشاعر في مراحل تتطور فيها تجربته وهو في تنوع قراءاته تتعدد خياراته وتنحو نحو التجريب والتطوير وقد يصل إلى تعقيد ما وهو أمر محمود ينأى به عن المباشرة والتسطيح ، إذا لم يكن تعقيدا متكلفا … نعم هناك تعقيد ما في قصيدتي الحالية وتمرد شعري ليس على الثوابت بل تمرد شعري على ما أراه قيدا يحدُّ من حريتي في التعبير .
*نلاحظ في ديوانك (موشومة تحت الجلد ) تجسيد للفكرة عبر تكرار صورها وما يحفز ذلك هو إنقسامها الى مشجرات عنقودية، واعتمادها على نظام الفقرة .. هل هذه دعوة للقارئ إلى أن ينزاح هو الآخر عن اللغة الشعرية المألوفة بطريق بناء حوار جاد مع لغة القصيدة الحداثية وعليه أيضاً أن يضع معارفه القديمة إزاء النص الجديد موضع تعديل ،ليحدث التفاعل ويحدث القبول الجمالي للخطاب ؟
– نعم تجسدت الفكرة عبر تكرار صوري متعدد خاصة تلك الفكرة التي تلح عليّ وتكمن في أعماق الذات وهي بالفعل دعوة للقارئ لبناء حوار جاد مع لغة القصيدة المتشظية التي تطمح لتأسيس خطاب جمالي جديد منبثق من قناعتي ورؤيتي الجمالية لتطور النص الشعري الخاص بي والذي يحمل بصمة الذات الشاعرة وخصوصيتها .
.