ندوة «جنوب الشرقية» تكشف أسرارا تاريخية خالدة
بقلم فيصل بن سعيد العلوي
يصاحبها معرض يضم 1356 وثيقة عامة وخاصة
تتواصل لليوم الثاني على التوالي فعاليات ندوة «محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العُماني» التي انطلقت اليوم في ولاية صور بمشاركة 27 ورقة عمل تكشف عددا من الأسرار التاريخية الخالدة التي جعلت محافظة جنوب الشرقية محط اهتمام العديد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ.
تسلط الندوة التي أقيم حفل افتتاحها برعاية معالي الشيخ سباع بن حمدان السعدي أمين عام الأمانة العامة للاحتفالات الوطنية الضوء على دور محافظة جنوب الشرقية عبر تاريخها الطويل وأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية في التاريخ العُماني، حيث تتضمن الندوة استعراضا للمصادر التاريخية المتنوعة والوثائق والمخطوطات والروايات الشفوية التي تعكس دور المحافظة عبر حقب التاريخ المختلفة. وتهدف الندوة إلى الوقوف على واقع التاريخ العُماني والحضارة العُمانية بشكل عام، ودراسة التاريخ المحلي المتمثل في تاريخ وحضارة محافظة جنوب الشرقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتعرف على العادات والتقاليد العُمانية الأصيلة التي تشتهر بها المحافظة.
الجلسة الأولى للندوة التي أدارها الدكتور علي الريامي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس انطلقت بورقة تناولت خصائص الموقع الجغرافي والإمكانات الاقتصادية والسياحية لمحافظة جنوب الشرقية قدمها الدكتور سالم بن مبارك الحتروشي أستاذ الجغرافيا الطبيعية في جامعة السلطان قابوس سابقا وعرّف فيها بداية بالموقع الجغرافي وأبرز الخصائص الجغرافية الطبيعية والبشرية لمحافظة جنوب الشرقية، ضمن الخصائص الجغرافية العامة لسلطنة عُمان، وناقش خصائص الموقع الجغرافي، والبناء الجيولوجي وأشكال السطح، والظروف المناخية، كما عرج على أبرز الأنشطة الاقتصادية الواعدة التي تمتاز بها المحافظة، والمرتبطة بالماء والبحر فيما يعرف بالاقتصاد الأزرق المستدام كميزة تنافسية، مركزا على الأنشطة الاقتصادية التي تمتاز بها المحافظة، وفي مقدمتها قطاع الثروة السمكية وقطاع الزراعة وقطاع السياحة.
الجوانب الحضارية لقلهات
وحول الجوانب الحضارية لمدينة قلهات في ظل حكم الهرمزيين من القرن 7- 9 هـ/ 13- 15م أشارت الدكتورة فاطمة بلهواري أستاذة التاريخ بجامعة السلطان قابوس إلى أن مدينة قلهات تعد العاصمة الثانية لمملكة هرمز حين مدت نفوذها إليها، وانتعشت هذه المدينة بقوة منذ القرن الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. وقد أدار الحكم فيها محمود القلهاتي في عام 1225م باسم الهرمزيين، حيث اعتبر عهده من أشد مراحل الحكم عليها، بينما تقلص نشاطها التجاري حين دمرها الزلزال، ونهبها البرتغاليون في عام 1508م لتدخل قلهات في حالة خراب وهجر أهلها.
وكشفت الورقة عن المصادر المكتوبة والأثرية بأنواعها التي تدل على تاريخ وحضارة قلهات خلال الحكم الهرمزي، حيث أبرزت سلسلة التنقيبات الأثرية التي خضعت لها المنطقة ونتائج التنقيبات الأثرية فيها، إضافة إلى الوضعية السياسية لقلهات في ظل حكم الهرمزيين، كما عرجت الورقة على الملامح الحضارية لمدينة قلهات، ودور مدينة قلهات الاستراتيجي والتجاري في ظل حكم الهرمزيين، والكشف عن معالم مدينة قلهات الحيوية وأثرها في الحركة الاقتصادية منذ القرن 13 إلى القرن 15م.
قلهات في المراسلات
من جانبه، استعرض الدكتور سليمان بن سعيد الكيومي أستاذ مساعد بجامعة البريمي «مدينة قلهات في المراسلات الرسمية البرتغالية (1504-1522م)» قائلا: إن مدينة قلهات ذُكرت في المصادر بأنها كانت أول عاصمة لعُمان قبل ظهور الإسلام بعدة قرون، وقد كانت محط أنظار العالم في ذلك الوقت، بسبب المميزات العديدة التي تزكي موقعها الفريد والمتميز وكمدينة مهمة وميناء متميز كانت لها ميزة الاستقطاب للرحَّالة والمستكشفين والباحثين عن المعرفة، فاشتهرت كمدينة تجارية، كما ورد ذكرها في العديد من كتب الرحَّالة، مثل ابن بطوطة الذي وصفها بأنّها مركز تصدير الخيول، وكذلك وصفها الرحَّالة الإيطالي ماركو بولو في القرن الثالث عشر الميلادي وأطلق عليها اسم (قلاياتي)، كما ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان.
وأضاف «الكيومي»: إنه عندما قدم البرتغاليون للمنطقة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، سيطروا على المدن العُمانية الساحلية، كانت قلهات من أوائل المواقع التي سيطروا عليها بدءا من عام 1507م، ومنذ ذلك التاريخ نجد اسم قلهات يتردد في الوثائق والمراسلات البرتغالية، حيث أصبحت قلهات مركزا تجاريا وعسكريا للأسطول البرتغالي في الفترة من 1507- 1649م. وتتبعت دراسة الدكتور سليمان الكيومي ما دونه البرتغاليون حول قلهات أثناء السيطرة البرتغالية على المنطقة، من أجل الوصول إلى صورة متكاملة عن الوضع العسكري والتجاري في قلهات في تلك الفترة، كما صنف الباحث المراسلات البرتغالية حول قلهات في المجال العسكري المتعلق بالأحداث والعمليات العسكرية، والمجال الاقتصادي المرتبط بحركة السفن التجارية، والسلع التي كانت رائجة في فترة السيطرة البرتغالية مثل تجارة الخيول، وإبراز أهمية قلهات كميناء ومستودع للتجارة البرتغالية في الخليج.
مشاهدات حضارية
وحول التلامس الأوروبي الإسلامي في الرؤية الحضارية لمدينة قلهات في القرن (8هـ/ 14م) من خلال رحلتي ماركو بولو وابن بطوطة سلط الأستاذ الدكتور فيصل سيد طه حافظ أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الكويت في بحثه الضوء على بعض المشاهدات الحضارية لمدينة قلهات العُمانية في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي معتمدا على رحلتين؛ الأولى: رحلة ماركو بولو الإيطالي، والثانية: ابن بطوطة، الذي زار المدينة بعد ماركو بولو بنحو خمسين سنة تقريبا. وهدف الباحث إلى إبراز العوامل التي أثرت في وصف المشاهدات الحضارية لمدينة قلهات في رحلة كل من ابن بطوطة وماركو بولو، وكان من بين تلك العوامل هو الوصف الذي يقع بين تأثير الذات والموضوعية، حيث إن الواقع المؤسساتي لكل منهما قد حكم وصفهما. وأكد الباحث في ورقة عمله، أن القرن الثامن الهجري شهد ازدهارا حضاريا وتطورا عمرانيا لمدينة قلهات، وجذبت حضارة قلهات ونموها العمراني أنظار كل من ماركو بولو وابن بطوطة، وكان للفكر الأوربي المسيحي أثر في وصف ماركو بولو للمدينة، كما كان للفكر الإسلامي أثر في توجيه مشاهدات ابن بطوطة.
سعيد القلهاتي ومكانته
من جانبها، قالت باحثة الدكتوراه بجامعة السلطان قابوس مريم بنت سعيد البرطمانية في ورقتها حول شخصية «سعيد أبو علي القلهاتي ومكانته في القصر الصيني»: انتشرت الجالية العُمانية باختلاف مواطنها الأصلية في مختلف أصقاع المعمورة ويعزى هذا إلى عدة أسباب وعوامل؛ حيث كان لطبعهم وشغفهم في امتهان التجارة أثره في شد الرحال برا وبحرا إلى الأماكن القاصية حاملين بضائعهم معهم إلى الشعوب التي احتكوا بها واستأنسوا بثقافتها وحضارتها وكذلك حبهم لنشر الدين الإسلامي.
وسلطت الباحثة الضوء على التاجر سعيد القلهاتي وموقعه في الكتابات التاريخية الصينية، لكون أصوله قلهاتية مؤكدة في ورقتها الدور المحوري للتاجر العُماني في تأسيس العلاقة بين الصين والمنطقة متمثلة بالتاجر سعيد أبي علي القلهاتي في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ومكانة الإنسان العُماني من خلال توليه مناصب عليا في القصر الإمبراطوري الصيني في عهد أسرة يوان المغولية.
«الحد» وطيوي في المصادر البرتغالية
من جانبه، قال الدكتور أحمد بن حميد التوبي أخصائي مناهج تعليمية تاريخ أول، بوزارة التربية والتعليم في ورقته حول «رأس الحد وطيوي في المصادر البرتغالية المترجمة (1507- 1650م)»: كان الوجود البرتغالي على الساحل العُماني في الفترة من 1507م حتى 1650م سببا في اهتمام المصادر البرتغالية به، وكان هدف السيطرة على مضيق هرمز، لتحقيق احتكار التجارة، قد فرض عليهم ضرورة السيطرة على المدن الساحلية العُمانية، بسبب موقعها الاستراتيجي، وشهرة العُمانيين في التجارة، فاتخذ البرتغاليون حصونا ومراكز لهم على الساحل العُماني؛ لتحقيق هدفهم، كما اعتبروا بدايته من الشرق جغرافيا جزءا من مضيق هرمز، وكانت مناطقه نقطة استراحة وانطلاق وتزوّد بالماء والمؤن، وتعد مناطق صور ذات أهمية كبيرة لوجودهم، وإن كان الثقل في البداية على قلهات نتيجة أهميتها كمدينة وميناء لمملكة هرمز.
جعلان بني بو حسن ومكانتها
وحول «جعلان بني بو حسن ومكانتها التاريخية (1601م – 1901م)» أشار الدكتور عادل بن راشد المطاعني الأستاذ الزائر بجامعة السلطان قابوس إلى أن ولاية جعلان بني بو حسن تعد إحدى ولايات قطاع جعلان الثلاث التي تشمل ولاية الكامل والوافي وولاية جعلان بني بو حسن وولاية جعلان بني بوعلي بمحافظة جنوب الشرقية، التي تعد من الولايات العريقة بإنجازاتها الحضارية المتعددة وموروثها التاريخي، وشخصياتها العديدة التي برزت على مر العصور حالها كحال بقية ولايات سلطنة عمان التي سطر أبناؤها بأحرف من نور كثيرا من الإنجازات في كتاب التاريخ العُماني.
وسلطت الورقة الضوء على جعلان بني بوحسن في عصر دولة اليعاربة، وفي عصر دولة آل بوسعيد، إضافة إلى الرحلات الاستكشافية لجبل الصخام مؤكدة في ختامها على الأهمية التاريخية والسياسية لولاية جعلان بني بوحسن ودورها في تدعيم أسس الاستقرار، وأن أبناء هذه الولاية لهم دور كبير في الحفاظ على سيادة الوطن وتلاحمه وارتباطه بقيادته.
كلمة الهيئة
وألقى سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية كلمة قال فيها: إن الاهتمام بالتاريخ والوعي بالتراث والثقافة والفكر وإدراكه، لـهو زاد صالح لشحذ وجدان الأمة بأصالتها ورسوخها والاستعانة به على رقيها في حاضرها ومستقبلها وها نحن نشهد إنجازات متوالية في مختلف مجالات الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، وعلى صعيد آخر ظلت عُمان تمضي في نهجها الإنساني قرونا تلو الأخرى تتمسك بمبادئ السلام والمحبة لتزداد أكثر رسوخا وتثبيتا، فقد أرست عُمان في مبادئها السامية الرفيعة حُسن التعامل وثوابت المواقف ونشر الطمأنينة والأمان وظهر ذلك جليا على مر العصور الزمنية وهو ما أسهم في امتداد العلاقات التجارية مع الأمم والحضارات المختلفة فصار الركب من الأئمة والسلاطين على هذا النهج بثبات ويقين لا يتزعزع والتزام ثابت وتمكين يتسم بسياسة حب الخير للإنسانية.
وأضاف «الضوياني»: تمثل المؤتمرات والندوات أهمية خاصة في دراسة التاريخ الحضاري لسلطنة عُمان، وتتبع ما حققه الإنسان العماني على مدار الحقب التاريخية المختلفة وأولت الهيئة اهتمامها إدراكا منها بتحقيق الأهداف المرجوة والغايات المنشودة التي أنشئت من أجلها ومنها استغلال الوثائق والدراسات والبحوث ومختلف المصادر الاستغلال الأمثل دراسة وبحثا وإصدارا وأصبح ذلك منهجا تعمل عليه الهيئة بأحداث سلسلة من الندوات والمعارض الوثائقية لإبراز الجوانب الحضارية والتاريخية للمحافظات والمدن العُمانية.
المعرض المصاحب
وشهد معالي الشيخ سباع بن حمدان السعدي أمين عام الأمانة العامة للاحتفالات الوطنية قبيل انطلاق فعاليات الندوة، افتتاح المعرض الوثائقي المصاحب لندوة «محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العماني» في مجلس العفية بولاية صور، حيث احتوى المعرض على 1356 وثيقة تنوعت في ركن تاريخ التوثيق والأرشفة، وركن محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العماني الذي تضمن مجموعة من الوثائق في الشؤون المحلية والخارجية التي تتحدث عن تاريخ وحضارة المحافظة.
إضافة إلى ركن محافظة جنوب الشرقية في الصحافة المحلية: ويحتوي على أهم الأخبار والمحطات التاريخية المهمة للمحافظة، إضافة إلى ركن مراسلات المواطنين الذي احتوى على مراسلات مواطني محافظة جنوب الشرقية والذين بادروا بتسجيل وثائقهم لدى الهيئة، وتنوعت الموضوعات في كافة المجالات الدينية، والأدبية، والاجتماعية، وغيرها، إضافة إلى ركن المخطوطات الذي عرض أصول المخطوطات لمواطني محافظة جنوب الشرقية وممن وهبوا مخطوطاتهم للهيئة.
حيث عرض ركن المحتوى الرقمي مجموعة قيمة من الخرائط والوثائق والطوابع والعملات، وفي قاعة السينما تم عرض فيلم محافظة جنوب الشرقية في ذاكرة التاريخ العماني، وضم ركن المكتبة إصدارات هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بلغت 30 كتابا، كما احتوى المعرض على مسابقات ثقافية للزوار لإثراء المعرفة وتحقيق الوعي المعرفي في مجال الوثائق وتاريخ وحضارة عمان.